ولكن جرأة الروح غير المعهودة فيه فارقته حين وجد نفسه ينهي ملحمته «أورشليم المحررة»(١٥٧٤). لقد كان هذا الجهد ذروة جهود حياته، ولو أن الكنيسة أدانته بالإباحية أو الهرطقة لودع السعادة إلى الابد وفي رهبة وخوف بعث بمخطوطته إلى سبعة نقاد مستفتياً في حبكة القصيدة وشخوصها ولغتها وآدابها. وقد بلغ نقدهم لها من الكثرة ما جعله يلقي القصيدة جانباً لأنه لم يعرف كيف يرضيهم جميعاً. فظلت محبوسة عن النشر خمس سنوات. إنه وهو عليم بأنه كتب رائعة اشتط في مطالبه من النقاد ومن الحياة. وقد اعترف بأنه «لم يطق العيش في مدينة لا يخلى نبلاؤها مكان الصدارة له، أو على الاقل يسوون بينه وبينهم مساواة مطلقة». ولا ريب أنه كان يستحق هذه المساواة، ولكنه اضاف انه «كان يتوقع أن يعبده الأصدقاء، ويخدمه الخدم، ويعانقه أهل البيت، ويكرمه السادة، ويحتفل بذكره الشعراء، ويشير إليه الجميع بأصابعهم»(٧٤) وكثرت في فيرارا فئة تنقد شعره، وخلقه، ودعاواه. فبدأ يحلم بمكان ألين في قصور ألطف وأرق.
كانت المنغصات البدنية والنفسية قد هزت أعصابه: حمى الملاريا، ونوبات الصداع المتكررة، والصدمات المتراكمة إثر نفي ابيه، وموت أمه، وإملاق أبيه وهو مشرف على الموت، يضاف إلى هذا كله أن الشكوك اللاهوتية التي ساورته - شكوك الجحيم والخلود، والوهية المسيح - ألقت على عقله ظلاً ثقيلاً من الإحساس بالإثم ودفعته إلى الاكثار من