وتجلد فليب في ظاهر الأمر لذل الكارثة وعارها، وقال انه أرسل سفنه لتقاتل البشر لا الأنواء. ولكن الهزيمة حطمت روحه وكادت تحطم أسبانيا، هذا برغم أنه عاش بعدها وقاتل عشر سنوات أخرى، وأن أسبانيا استغرقت قرنا حتى سلمت بخرابها. إنه لم يستطع أن يصدق أن الله تخلى عنه بعد ثلاثين عاما من الكفاح في سبيل الإيمان، ولكن لا بد أن هذه الحقيقة الكئيبة طالعته في النهاية، وهي أنه بعد أن أفقر شعبه بالضرائب، أخفق في كل شئ إلا في اكتسابه البرتغال بمحض الصدفة، ورده الترك مؤقتا-وكانوا قد استولوا من جديد على تونس وأخذوا يستردون سطوتهم. لقد كان هنري الرابع يسير إلى النصر في فرنسا؛ والأراضي المنخفضة في ثورة لا سبيل إلى التصالح فيها؛ وأبى البابا أن يتحمل فلسا من نفقات الأرمادا؛ وقبضت البروتستنتية على ناصية الشمال الغني، واخذت تهيمن على البحار ومن ثم على أمريكا والشرق بعد قليل، أما تلك السليطة اليزابث، فهي متربعة على عرشها المنيع وسط المياه ظافرة بعد أن تفوقت على كل ملوك عصرها فطنة ودهاء.
واصطلح على الملك الثكل، والعزلة، والمرض-اصطلحت عليه كلها لتذله بعد عز وتوهن من اعتداده بنفسه. كانت زوجته الرابعة قد ماتت عام ١٥٨٠، ولم يبق على قيد الحياة من الأطفال الثلاثة الذين أنجبتهم غير غلام قليل الكفاية لا بد أن يورث أول امبراطورية لا تغرب الشمس فوق رقعتها. ان الشعب ما زال يحمل لفليب الاجلال برغم أخطائه وهزائمه، فهو مقتنع بأنه ناضل من أجل قضية مقدسة، وأنه لعب لعبة القوة دون أن يفوق أعداءه تحللا من مبادئ الشرف، وهو صابر في غير لوم على الشقاء الذي أوقعته فيه سياساته الاقتصادية ونظام ضرائبه وهزائمه. وقد اصاب أطرافه بالآلام المبرحة في شيخوخته، وأعجزه بالشلل، ذلك النقرس الذي كان آخر تركة ورثها عن أبيه، وخيمت على احدى عينيه سحابة من السد، وشوهت جلده القرح المنفرة.