للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

عازفاً اسمه "نارادا" أنشد تلك الراجات في إهمال لشأنها، فزجّ به "فشنو" في نار الجحيم حيث شاهد رجالاً ونساء يبكون على ما تكسر من جوارحهم وقال له الإله إن هؤلاء الرجال والنساء هم الراجات والراجينات التي شوهها ومزقها عزفه المستهتر فلما شاهد "نارادا" ذلك- هكذا تروى الأسطورة- حاول أن يكون في فنه أكثر إتقاناً إذ أخذته بعدئذ خشية الخاشع (١٤).

والعازف الهندي لا يلتزم "الراجا" التي اختارها لبرنامجه الموسيقي التزاماً يضيّق من حريته تضييقاً خطيراً، أكثر مما يلتزم المنشئ الموسيقي في الغرب، إذا ما أنشأ "سوناتا" أو "سيمفونية"، موضوعَه الموسيقيَّ التزاماً يعرقله؛ ففي كلتا الحالتين، ما يفقده العازف من حرية، يعوضه بما يتاح له من تماسك البناء واتزان الصورة؛ فالموسيقي الهندي شبيه بالفيلسوف الهندي، كلاهما يبدأ بالجزئي المحدود "ويرسل روحه إلى اللامحدود"؛ إنه يظل يمعن في وَشْي موضوعه وشياً دقيق الأجزاء، حتى يتمكن في نهاية المر بفعل تيار متموج من دورات التوقيع وتكرار النغمة، بل بفعل اطراد الأنغام اطراداً رتيباً مملاً، أن يخلق نوعاً من "اليوجا" الموسيقية، أعني ضرباً من الذهول الذي يشل الإرادة ويطمس الفردية اللتين ننسبهما للمادة والمكان والزمان، وبهذا ترتفع الروح إلى ما يوشك أن يكون اتحاداً صوفياً بشيء "عميق الاتصال في نفوسنا بجذوره" أو قُلْ "بكائن" عميق عظيم ساكن، أو بحقيقة سابقة لهذا العالم ومنبثة في كل أجزائه، تبتسم ساخرة من كافة الإرادات المكافحة ومن التغير والموت بشتى ما لهما من صور.

والأرجح أننا لن نستسيغ الموسيقى الهندية، ولن نفهمها، إلا إذا استبدلنا بالكفاح كينونة ساكنة، وبالترقي ثباتاً، وبالشهوة استسلاماً، وبالحركة استقراراً؛ وربما اصطنعنا لأنفسنا هذه الحالة إذا عادت من جديد خاضعة، وعادت آسيا مرة أخرى للسيادة، لكن آسيا عندئذ ستمل السكينة والثبات والاستسلام والقرار.