وعانت المدن الصغيرة أقل مما عانت القرى. وهبط عدد سكان كثير منها إلى نصف ما كان عليه من قبل. وأصبحت المدن الكبرى أطلالاً خربة-مجدبرج، هيدلبرج، نورمبرج، نيو ستاد، بايريت. وتدهورت الصناعة لعدم وجود المنتخبين والمشترين والحرفيين، وكسدت التجارة. وصار التجار الذين كانوا يوماً أثرياء يتسولون أو يسرقون من أجل لقمة العيش. وامتنعت المكوميونات عن دفع ديونها بعد أن أعلنت إفلاسها. وأحجم الممولون عن الإقراض خشية أن تتحول القروض إلى هبات أو منح. وأفقرت الضرائب كل الناس، اللهم إلا القواد والجباة والقساوسة والملوك، وبات الهواء ساماً بسبب الفضلات والنفايات والجثث المتعففة في الشوارع. وانتشرت أوبئة التيفوس والتيفود والدوزنتاريا والأسقربوط بين السكان المذعورين، ومن بلدة أخرى. ومرت القوات الأسبانية بمدينة ميونخ فتركت وراءها طاعوناً أودى بحياة عشرة آلاف ضحية في أربعة شهور (٨٣). وذوت وذبلت في أتون الحرب الفنون والآداب التي كانت تضفي على المدن شرفاً ومجداً.
وانهارت الأخلاق والروح المعنوية على حد سواء، فإن اليأس المقرون بالإيمان بالقضاء والقدر دعا إلى الوحشية المقترنة بالسخرية. واختفت كل المثل الدينية والوطنية بعد جيل ساده العنف، وكان البسطاء من الناس يكافحون الآن من أجل الطعام أو الشراب، أو يقاتلون بسبب الكراهية. على حين عبأ سادتهم عواطفهم في التنافس على اقتناء الأراضي التي يمكن أن يجمعوا منها الضرائب، وعلى السلطة السياسية. وهنا وهناك ظهرت بعض النواحي الإنسانية، فكان الجزويت يجمعون الصدقات ليطعموا الأطفال الذين لا عائل لهم، كما كان الوعاظ يطلبون إلى الحكومات وضع حد لسفك الدماء والدمار. وكتب أحد الفلاحين في مذكراته اليومية "اللهم إنا نتوسل إليك أن تعيد لنا السلام. يا إله السموات أنزل علينا السلام (٨٤) ".