وفصاحته المثيرة، وحيثما ذهب كانت شمس الجنوب تجعل الدم يغلي في عروقه، "إني لأرهق نفسي وأعذبها وأقهرها، حباً في الحكمة الحقة، وغيرة على التأمل الصادق"(٢٤).
وفي أواخر عام ١٥٨٥ عاد إلى باريس، في أثر السفير الذي استدعي إليها. وحاضر في السوربون مثيراً عداوة أنصار أرسطو، كما هي العادة. وأغرته حروب العصبة ضد هنري الثالث بأن يختبر الجامعات الألمانية، فتسجل في جامعة ماربرج، ولكنه رفض إلقاء المحاضرات، وعرض برئيس الجامعة وقصد إلى وتنبرج، وقضى عامين يحاضر في جامعة لوتر، ولدى مغادرته لها عبر عن شكره في خطاب محلق ودع فيه الجامعة. ولكن لاهوت رجال الإصلاح لم يرقه، فالتمس رعاية رودلف الثاني في براغ. وظنه الإمبراطور رجلا غريب الأطوار، ولكنه منحه ٣٠٠ ثيلر، وأذن له بالتدريس في جامعة هلمستد في برنزويك. وبقي سعيداً في عمله لعدة أشهر، اتهمه بعدها رئيس الكنيسة اللوثرية وأصدر قراراً بحرمانه من الكنيسة (٢٥). ولسنا نعرف جوهر الحقيقة فيما جرى، ولكن برونو رحل إلى فرانكفورت وزيورخ ثم إلى فرانكفورت ثانية (١٥٩٠ - ١٥٩١) حيث استقر به المقام لينشر مؤلفاته اللاتينية.
وفي تلك الأثناء-قبل إيداعه السجن بأمر محكمة التفتيش بعام واحد-كانت فلسفته قد اكتملت، ولو أنها لم تصل قط إلى مرتبة الوضوح والترابط. أننا عند النظر في أهم مؤلفات برونو لتصدمنا العنوانات التي وضعها في صيغة مقتضبة. ويغلب عليها أن تكون شاعرية مبهمة، تنذرنا بألا نتوقع فلسفة منهجية متماسكة، بل هي على الأرجح أفكار خيالية صالحة وانجذابات صوفية أو نشوات. وقل أن نجد في أي مؤلف آخر، اللهم إلا رابليه، هذا الخليط من النعوت والألقاب والمجازات البلاغية والرموز والخرافات والنزوات والفكاهات، والكلام المنمق والتوافه والتمجيد والسخرية وخفة الدم، مكدسة بعضها فوق بعض، في فوضى من المبادئ والأفكار الثاقبة والفرضيات.