وبدأ تقاليد المثالية في الفلسفة الحديثة، من بركلي إلى فخت، بتوكيد ديكارت على الفكر بوصفه الحقيقة الوحيدة المعروفة بطريق مباشر، مثلما انحدرت تقاليد التجريبية من هوبز إلى سبنسر. ولكن ديكارت قدم للمثالية ترياقاً -مفهوم كون موضوعي ميكانيكي تماماً-فإن محاولته لفهم العمليات العضوية وغير العضوية، سواء بسواء، على أساس ميكانيكي، هيأت للبيولوجيا وللفسيولوجيا قوة دافعة متهورة ولكنها مجدية. وتحليله الميكانيكي للإحساس والخيال والذاكرة والإرادة، أصبح معيناً لا ينضب لعلم النفس الحديث. وبعد أن دعم القرن السابع عشر في فرنسا العقيدة القويمة بديكارت، وجدت استثارة القرن الثامن عشر أرضاً خصبة في شكه المنهجي، وفي اعتماده على العقل، وفي تفسيره لكل حياة الحيوان على نفس أسس الفيزياء والكيمياء (١١٢). إن اعتداد الفرنسي-المغترب بنفسه اعتداداً لم يتزعزع قط، كان يبرره أثره المتزايد على الذهن الفرنسي.
إن "المناظر الكبرى" بين العقل والإيمان كانت تتخذ شكلاً واعياً. ولكن تاريخها الحديث كان قد بدأ فقط. إننا إذا ألقينا نظرة على الأعوام التسعين ١٥٥٨ - ١٦٤٨، من إليزابث إلى ريشليو، ومن شكسبير إلى ديكارت، لأدركنا أن كل القضايا المستحوذة على الأذهان لا تزال محصورة في المسيحية، بين المذاهب الدينية المتنافسة المؤسسة كلها على إنجيل قبله الجميع على أنه "كلمة الله" وثمة مجرد أصوات شاردة كانت تقول بأن المسيحية نفسها يمكن أن توضع موضع الاختبار، وبأن الفلسفة لن تلبث أن تنبذ كل مذهب خارق للطبيعة.
وبعد هذه المراحل الأولى من الصراع بقيت الكاثوليكية مسيطرة في أسبانيا والبرتغال حيث ظلت محاكم التفتيش تنشر الرعب والكآبة. أما في إيطاليا فقد اتسمت الديانة العتيقة بروح أكثر إنسانية، وأضفت بالفن على الحياة شيئاً من الجمال، وزينت الأخلاقيات بالأمل، وارتضت فرنسا حلاً وسطاً، وعاشت المسيحية نشيطة مزدهرة بين الشعب، كاثوليك أو هيجونوت، على