جلها صغير مستضعف، ولكل منها حاكمها، وجيشها، وعملتها، وقوانينها، ولا يزيد سكان الواحدة منها على المليونين-وعلى نقيض هذا كانت فرنسا بعد ١٦٦٠ أمة متماسكة جغرافياً، متحدة تحت حكومة مركزية قوية واحدة، وهكذا تمخضت جهود ريشليو الأليمة عن مولد "القرن العظيم".
ولقد فاز البورون حيث أخفق الفالوا في ذلك الصراع الطويل الذي نشب بين الهابسبورج والملوك الفرنسيين. وأخذت أجزاء من الإمبراطورية، عقداً بعد عقد، تقع في قبضة فرنسا، ثم نزلت أسبانيا الهابسبورجية عن كبريائها وزعامتها في روكروا (١٦٤٣) وصلح البرانس (١٦٥٩). وبعدها عقد لواء القوة للدولة الفرنسية في العالم المسيحي، دولة مطمئنة إلى مواردها الطبيعية، ومهارات شعبها وولائه، وخطط قادتها العسكريين، ومصير ملكها. كذلك كان من الأهمية بمكان ما كتب لهذا الفتى من حكم سيتصل قرابة ثلاثة أرباع القرن، مضيفاً بذلك وحدة الحكومة والسياسة إلى وحدة العرض والأرض، وهكذا سنرى فرنسا طوال خمسين عاماً ترعى وتستقدم عباقرة العلم والأدب، تشيد القصور الشامخة، وتجيش الجيوش الضخمة، وترهب نصف الدنيا وتلتهمها. لقد قدر لهذه الصورة أن تكون صورة عظيمة لم تكد تضارعها من قبل عظمة، ترسم بكل ضروب الفن وألوانه، وبدم الرجال أيضاً.
ولم تكن فرنسا قد توحدت بعد يوم ارتقى لويس الرابع عشر العرش وهو لا يجاوز الخامسة (١٦٤٣)، وكان على كردينال ثان أن يتم العمل الذي بدأه سلفه ريشليو. ذلك هو جول مازارن الذي كان يسمى في إيطاليا جوليو مازاريني، وقد ولد في "الأبروتزي" لأبوين صقليين فقيرين، وتولى اليسوعيون تعليمه في روما، وخدم الباباوات موظفاً دبلوماسياً، ثم لفت أنظار أوربا فجأة يوم أنهى الحرب المانتوية (١٦٣٠) بالمفاوضة في لحظة حرجة. فلما أوفده البابا مبعوثاً له في باريس، ربط مصيره بعبقرية