ولا في ألفة ديكارت السارة، بل في القوة العاطفية لشاعر يحس بالفلسفة، ويكتب لقلبه بدمه. في قمة العصر الكلاسيكي علا هذا النداء الرومانسي، وبلغ من القوة ما أتاح له أن يعمر بعد بوالو وفولتير، وأن يسمعه عبر قرن من الزمان روسو وشاتوبريان. فهنا، في صبيحة عصر العقل، وفي عقود هوبز وسبينوزا ذاتها، وجد العقل منازلاً له في رجل محتضر.
روت مدام بيرييه، شقيقة بسكال، أنه كان في سنيه الأخيرة يعاني من "علل مستديمة متفاقمة (٧٠) " وانتهى به الأمر إلى الرأي بأن "المرض هو الحالة الطبيعية للمسيحيين (٧١) ". وكان أحياناً يرحب بآلامه لأنها تصرفه عن المغريات. قال "إن ساعة من الألم تعلم أفضل من كل الفلاسفة مجتمعين (٧٢) ". وقد هجر كل اللذات، وعكف على ممارسة النسك، وجلد نفسه بحزام ثبتت فيه مسامير من حديد (٧٣). ووبخ مدام بيرييه لأنها تسمح لأبنائها بعناقها. وعارض في زواج ابنتها قائلاً:"إن حالة الزوجية ليست خيراً من الوثنية في نظر الله (٧٤) ". ولم يسمح لإنسان في حضرته أن يتحدث عن جمال المرأة.
وفي عام ١٦٦٢، آوى أسرة فقيرة في بيته صدقة من صدقاته الكثيرة. فلما أصيب أحد الأطفال بالجدري انتقل بسكال إلى بيت شقيقته بدلاً من أن يطلب إلى الأسرة أن تغادر بيته. ولم يمضِ وقت طويل حتى لزم فراشه وقد حطمته الآلام المعوية. وكتب وصيته، فترك نصف ثروته تقريباً للفقراء، واعترف لكاهن، وتناول القربان الأخير، ثم لفظ أنفاسه إثر تقلصات عنيفة، في ١٩ أغسطس ١٦٦٢ وهو لا يجاوز الأربعين. ولما شرحت جثته وجد أن معدته وكبده مريضتان، وأن في أمعائه قرحاً (٧٥). وقال الأطباء أن مخه "ضخم الحجم جداً، وأن مادته جامدة مكثفة" ولكن خطاً واحداً فقط من خطوط الاتصال بين عظام الجمجمة هو الذي كان مقفلاً قفلاً سليماً، ولعل هذا هو السر في نوبات الصداع الرهيبة التي ابتلي بها.