عساه أن يجد القوت مرة أخرى، وهذا الارتياب في ظروف المستقبل هو منشأ الجشع؛ فالرجل من قبيلة "ياقوت" يأكل أربعين رطلا من اللحم في يوم واحد وكذلك تروا قصص كهذه- وأن تكن أقل منها بطولة - عن الإسكيمو والسكان الأصليين في استراليا، وأن الاطمئنان الاقتصادي الذي هو من نتائج المدنية لمن حداثة العهد بحيث يتعذر عليه أن يزيل هذا الجشع الطبيعي في الإنسان، الذي لا يزال يظهر في حب التملك الذي لا يشبع، حتى لتراه يدفع الرجل الحديث أو المرأة الحديثة إذ هما في قلق من الحياة، أن يَخزُنا الذهب أو غيره من السلع التي يمكن تحويلها إلى طعام إذا ما طرأ طارئ مفاجئ؛ وليس الجشع للشراب كالجشع للطعام لأن معظم الجماعات الإنسانية قد احتشدت حول ينابيع الماء؛ ومع ذلك فشراب المسكرات يوشك أن يعم الإنسان جميعاً، وهم لا يطلبونه عن جشع بقدر ما يطلبونه ليدفئوا في أنفسهم برودة يحسونها، أو ليمحوا من ذاكرتهم هما يشقيهم- وقد يطلبونه لمجرد أن ما تحت أيديهم من الماء لا يصلح شراباً.
والخيانة ليست عريقة القدم كالجشع، ذلك لأن الجوع أسبق إلى الوجود من الملكية؛ ولعل"الهمج" البدائيين في أبسط صورهم أكثر الناس أمانة "فالكلمة يقولونها مقدسة" كما يقول "كولبن" Kolben عن قبيلة الهوتنتوت "وهم لا يصطنعون شيئاً مما تعرفه أوروبا من وسائل الفساد والخيانة"؛ لكن هذه الأمانة الساذجة زالت بتقدم وسائل المواصلات التي ربطت أجزاء الأرض بعضها ببعض، لأن وسائل أوروبا استطاعت بعدئذ أن تعلم هذا الفن الدقيق للهوتنتوت؛ فالخيانة بصفة عامة تنشأ مع المدنية؛ لأنه في ظل المدنية يزداد المجال الذي يتطلب دهاء السياسة أتساعاً، إذ تزداد الأشياء التي تغري الإنسان بالسرقة، وتربيتنا لأبنائنا تنشئهم على المهارة في ذلك؛ فإذا ما تقدمت الملكية بين البدائيين جاءهم في أثرها الكذب والسرقة.