المراكب تختفي فوق البحر (٣٤). تعجب سليمان فان رويسدال من ارتعاش المياه التي تعكس وتقلب صورة الزوارق والأشجار (القناة والمعدية)(٣٥)، وعلم ابن أخيه أن يتفوق عليه.
أما ابن أخيه هذا، واسمه يعقوب فان روسدال، فقد ترعرع في هارلم، وترك لنا "منظر الهارلم (٣٦) " لا يقل وقعاً في نفس الناظر عن لوحة فرمير "ديلفت"، ويفضلها نقلاً تعقد المدينة الكبيرة بما فيه من اتساع وزحمة. ثم انتقل إلى أمستردام وأصبح عضواً في الإخوان المينونيين، ولعل تصوفهم أعان فقره على إشعاره بالجانب المأساوي للطبيعة التي أحب أن يفنى بها. وعرف أن تلك الحقول والغابات، والسماوات التي تعد بالسلام، تستطيع كذلك أن تدمر، وأن للطبيعة نزوات من الغضب قد تقلع فيها الرياح المجنونة حتى اعتى الأشجار وأصلبها وتمزقها من جذورها، وأن الشقوق المهلكة قد تتكون في الأرض الطيبة، وأن البرق قد ينفث ناره القتالة على كل شكل من أشكال الحياة في لا مبالاة عابثة. فصورته "مسقط الماء على الجرف (٣٧) " ليست أنشودة رعوية إنما هي ثورة البحر الغاضبة على صخور أقسم أن يحطمها ويغرقها أو يبر بها، ولوحة "العاصفة (٣٨) " هي البحر يلطم عدوه اليابس في غضب، ولوحة "الشاطئ (٣٩) " لا تصور شاطئاً للهو بل ساحلاً كدرته أمواج عالية تحت سماء مكفهرة، ولوحة "الشتاء (٤٠) " لا تعرض مرح التزحلق، بل كوخاً حقيراً يرتجف تحت غيوم منذرة، وحفره الرائع "أشجار البلوط" يجردها من وقارها ليرى أغصانها شعثاء أو عارية وسيقانها وقد أتخنها الزمن القاسي بالجروح وشوه شكلها. ولوحة "جبانة اليهود (٤١) " هي ذاتها صورة للموت-أسوار متهدمة، وشجرة تموت، ومياه فيضان تجري فوق القبور. وليس مرد هذا كله أن رويسدال كان دائماً مكتئباً، ففي لوحة "حقل القمح (٤٢) " نقل بإحساس عميق هدوء طريق ريفي، وبركة المحاصيل الوفيرة، وفرحة الفضاء المترامي. ويبدو أن الهولنديين أحسوا أن أرضهم ومناخهم قد افترت عليهما صور رويسدال، فلم ينقدوه عليها إلا أجراً بخساً،