و"الأكتا ايروديتورم" الألمانية استطاع العلماء والدارسون الأوربيون أن يتغلبوا على الحدود القومية، ويكونوا على اتصال بأعمال بعضهم البعض وكشوفهم، ويؤلفوا جيشاً متحداً يزحف في مغامرة خلاقة هائلة. وكانوا وهم عاكفون بمنأى عن الأنظار في مكاتبهم، ومختبراتهم، وبعثاتهم، متجاهلين أو منتصرين على جلبة السياسة، وزحف الجيوش، وطنين العقائد الدينية، وضباب الخرافة، وعملاء الرقابة المدنية أو الكنسية المتطفلين-كانوا وسط هذا كله يكبون على النصوص، وأنابيب الاختبار، والمكرسكوبات، ويخلطون المواد الكيميائية في فضول، ويقيسون القوى والأحجام، ويضعون المعادلات والرسوم البيانية، ويتفحصون أسرار الخلية، وينبشون طبقات الأرض، ويرسمون حركات النجوم، حتى بدت حركات المادة وكأنها تنتظم في قانون، وبدت ضخامة الكون الهائلة وكأنها تتمثل للذهن البشري المذهل. ففي فرنسا كان فيرما، وبسكال، وروبرفال، وماريوت، وبيرو، وفروع بأكملها من آل كاسيني وفي سويسرا كان آل برنويي، وفي ألمانيا كان جويريكي، وليبنتز، وتشرنهاوس، وفارنهايت، وفي هولندا كان هويجنز وليوفنهويك، وفي إيطاليا كان فيفياني وتورب تشيللي، وفي الدنمرك كان ستينو، وفي إسكتلندة كان جيمس وديفد جريجوري، وفي إنجلترا كان واليس، ولستر، وبويل، وهوك، وفلامستيد، وهالي، ونيوتن: هؤلاء كلهم وغيرهم كثيرون، كانوا في هذه الحقبة القصيرة من تاريخ أوربا من ١٦٤٨ إلى ١٧١٥، يكدون فرادي وجماعات منعزلين ومتعاونين، ليبنوا يوماً فيوماً، وليلة فليلة، صرح الرياضة، والفلك، والجيولوجيا، والجغرافيا، والفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والتشريح، والفسيولوجيا-هذه العلوم التي قدر لها أن تحدث ثورة مصيرية في النفس الحديثة، أما أولدنبرج، الذي أحس دولية العلم هذه، ولم يخطر بباله قط أن القومية قد تجعل العلم نفسه أداة حزبية ومدمرة، فقد رأى في هذا التعاون الملهم بشيراً بحياة أفضل. وكتب لهويجنز يقول "أرجو أن يأتي الوقت الذي تتعانق فيه كل الأمم، حتى المتخلفة في الحضارة، عناق الرفاق الأعزاء، وأن تتضافر قواها الفكرية والمادية لإقصاء الجهل، وتغليب الفلسفة الصحيحة النافعة (١١) ". وما زال هذا رجاء العالم إلى اليوم.