وكان الصينيون يتخذون كتاب التغيرات كتابا يدرسون فيه طرق التنبؤ بالغيب، ويعدونه أعظم تراثهم الأدبي، ويقولون أن كل من فهم ما فيه من توافيق يدرك جميع القوانين الطبيعية. وقد نشر كنفوشيوس هذا الكتاب بنفسه، وجمله بما علق عليه من الحواشي، وكان يفضله على كل ما عداه من كتب الصينيين، ويتمنى أن يخلو لنفسه خمسين عاما يقضيها في دراسته.
ولا يتفق هذا السفر العجيب مع روح الفلسفة الصينية، وهي الروح الايجابية العملية، وان كان يلائم غموض النفس الصينية ونحن نجد في الصين فلاسفة في أبعد الازمان التي وصل إلينا تاريخها، ولكن كل ما حفظه التاريخ لهم قبل أيام لو- دزه، لا يعدو أن يكون قطعة مبتورة من هنا وهناك، أو مجرد أسم من الاسماء، وقد شهد القرنان السادس والخامس في بلاد الصين، كما شهدا في الهند وفارس وبلاد اليهود واليونان، عاصفة قوية من العبقرية الفلسفية والأدبية، بدأت كما بدأت في بلاد اليونان بعصر من "الاستنارة" العقلية.
ولقد سبق هذه الاستنارة عهد من الحروب والفوضى فتح أمام المواهب غير ذات الانساب العريقة مسالك للرقي، وحفز أهل المدن على أن يطلبوا لأنفسهم معلمين يثقفون أذهانهم بالفنون العقلية. وسرعان ما كشف معلمو الشعب ما في علوم الدين من ابهام وغموض، وما في الأداة الحكومية من نقص، وعرفوا أن المقاييس الاخلاقية مقاييس نسبية، وشرعوا يبحثون عن المثل العليا والكمال المطلق. وقد أعدم الكثيرون من هؤلاء الباحثين على يد ولاة الامور الذين وجدوا أن قتلهم أسهل من محاججتهم. وتقول احدى الروايات الصينية ان كنفوشيوس نفسه، وهو وزير الجريمة في مقاطعة لو، حكم بالاعدام على موظف صيني متمرد بحجة أنه "كان في وسعه أن يجمع حوله طائفة كبيرة من الرجال؛ وأن آراءه كانت تجد بسهولة من يستجيب لها من العامة، وأن تجعل العناد صفة خليقة بالإكبار والإجلال؛ وأن سفسطته كان فيها من المعارضة والمعاندة