حصافة الناس ولباقتهم، واعتداله في تطبيق النظرية على الممارسة أو العلم على العمل، أصبح منهجاً قياسياً ذا قيمة معترف بها في السياسة الإنجليزية، جعل الثورة أمراً تدريجياً دقيقاً لا يكاد يدرك، بينما هي حقيقة واقعة.
وانتقلت آراء لوك من إنجلترا إلى فرنسا مع فولتير في ١٧٢٩، واعتنقها مونتسكيو عند زيارته لإنجلترا ١٧٢٩ slash١٧٣١، وكان لها صدى عند روسو وغيره قبل الثورة الفرنسية وفي أثنائها، وبرزت باحلى معانيها في "إعلان حقوق الإنسان" الذي أصدرته الجمعية التأسيسية ١٧٨٩. وعندما ثار مستعمرو أمريكا في وجه جورج الثالث حين استعاد قوة الملك وسلطانه، نراهم اقتبسوا آراء لوك وصيغه بل ألفاظه تقريباً في "إعلان الاستقلال" الذي أصدروه. كما أن الحقوق التي أثبتها لوك أصبحت "وثيقة الحقوق" في التنقيحات العشرة الأولى للدستور الأمريكي. أما نظريته في فصل السلطات، كما وسعها منتسكيو لتشمل السلطة القضائية، فقد أصبحت عنصراً أساسياً في شكل الحكومة الأمريكية، كما أخذت عنايته البالغة بالملكية طريقها إلى التشريع الأمريكي، وأثرت مقالاته عن التسامح في الآباء المؤسسين في فصل الكنيسة عن الدولة وإقرار الحرية الدينية ويندر أن نجد في تاريخ الفلسفة السياسية رجلاً بمفرده كان له مثل هذا الأثر الخالد الباقي.
جـ - الذهن والمادة
كان تأثير لوك شاملاً وعميقاً في علم النفس قدر تأثيره في نظرية الحكم المدني. وظل يكتب رسالته عن "العقل الإنساني" منذ ١٦٧٠ ويتميز هذا البحث بأنه دفع به إلى المطبعة بعد عشرين عاماً قضاها في مراجعته وتنقيحه، ثم تسلم عن هذه التحفة الرائعة في علم نفس التحليلي ثلاثين جنيهاً. ويعزو لوك نفسه مشروعه في هذا البحث إلى مناقشة جرت في لندن ١٦٧٠:
اجتمع في حجرتي خمسة أو ستة من الأصدقاء، وكنا نناقش موضوعاً بعيداً عن هذا كل البعد، وسرعان ما وجدنا أنفسنا في مأزق نتيجة الصعوبات التي اعترضتنا من كل النواحي، وبعد أن تملكتنا الحيرة لبعض الوقت دون