كل الوعي لنسبية الحقيقة فلا بد يقيد فكره المطلق. ومع ذلك أشعل نيران الحرب (٤٨). وحيثما سار في محادثاته المختلفة مع مركيزته الوهمية، هب جيش الاستنارة بفرسان فولتير الخفيفة السريعة الاندفاع ومشاة دولباخ الثقيلة، ومهندسي دائرة المعارف العسكريين الخبراء في بث الألغام، بالإضافة إلى مدفعية ديدرو.
وكان أول اقتحامه مجال الفلسفة رسالة من خمس عشرة صحيفة "أصل الخرافات" والحق أنها كانت استقصاء سيولوجيا (اجتماعياً) عن نشأة الآلهة. ونحن لا نكاد نصدق كاتب سيرة حياته في أن الموضوع كتب وهو في سن الثالثة والعشرين، ولو أن مخطوطته تركت في حرص وحذر، حتى خفت وطأة الرقابة قي ١٧٢٤. وتكاد تكون هذه الرسالة "عصرية" في روحها، تعقبت الأساطير، لا إلى مجرد اختراع الكهنة لها، بل إلى تخيلها البدائي، فوق كل شيء، إلى استعادة العقول البسيطة لتجسيد العمليات، فإن نهراً فاض لأن إلهاً صب ماءه، فكل عمليا ت الطبيعة من عمل الأرباب.
اعتقد الناس أن كثيراً من العجائب فوق قدرتهم: حلول الصواعق وقصف الرعود، وهبوب الرياح وإثارة الأمواج .... وتخيل الناس كائنات أقوى منهم، قادرة على أحداث هذه الآثار. وكان لا بد لهذه الكائنات الأسمى أن تتخذ شكلاً آدمياً، فأي شكل آخر يمكن تصوره؟ … وعلى هذا كان الأرباب آدميين، ولكن أسبغت عليهم قدرة عليا .... وما كان في كقدور الناس البدائيين أن يدركوا صفة أدعى إلى الإعجاب من القوة المادية. ولم يكونوا قد أدركوا بعد الحكمة والعدالة، ولم يكن لديهم أسماء لهما (٤٩).
وقبل ورسو بنصف قرن نبذ فونتنيل ما قاله روسو عن مثالية الهمج غير المتمدنين، ففي رأيه أنهم كانوا أغبياء، متوحشين. ولكنه أضاف "كل الناس متشابهون شبهاً كبيراً، وليس ثمة جنس أو عرق، لا نرتعد نحن فزعاً من حماقاته وسخافاته (٥٠) ". وكان حريصاً على أن يضيف أن تفسيره للأرباب، ذلك التفسير المبني على المذهب الطبيعي، لم يطبق على آلهة المسيحيين أو اليهود.