تنثر الطبيعة هنا وهناك نفراً قليلاً لا يتجاوز عددهم ثلاثين أو أربعين. ممن يتمتعون بعقول راجحة (٥٣).
وبعد بضع سنين من هذه الخاتمة المتشائمة، مال فونتينل إلى نظرة أكثر تفاؤلاً إلى حد ما في "استطراد القدامى والحديثين (يناير ١٦٨٨) "، وهنا أوضح المؤلف فارقاً بيناً صغيراً. وفي الشعر والفن لم يكن ثمة تقدم ملموس، لأن هذين يعتمدان على الشعور والخيال اللذين لا يكادان يتغيران من جيل إلى جيل. أما من حيث العلوم والمعرفة والثقافة التي تعتمد على تراكم المعرفة تراكماً بطيئاً، فقد نتوقع التفوق على القدماء. وذهب فونتنيل إلى أن كل أمة تمر بمراحل، مثل الفرد، ففي عهد الطفولة تعكف على مواجهة حاجياتها المادية، وفي شبابها تضيف الخيال والشعر والفن، أما في مرحلة النضج فإنها قد تدرك العلوم والفلسفة (٥٤). وقال فونتينل بأنه رأى الحقائق تبرز وتنمو من خلال عملية التخلص التدريجي من الأفكار الخاطئة. "نحن مدينون للقدامى لأنهم لم يبقوا على شيء من النظريات الزائفة التي كان يمكن تكوينها، تقريباً"-أي أن ننسى أن بكل حقيقة عدداً لا يحصى من الأخطاء الممكنة. ورأى أن ديكارت قد وفق إلى طريقة جديدة أفضل للتفكير والاستنتاج-الطريقة الرياضية، وتمنى للعلم الآن أن يتقدم بخطوات سريعة.
حين نرى التقدم الذي أحرزته العلوم في المائة عام الأخيرة، على الرغم من الأهواء والعقبات وقلة عدد الأفراد العلميين، فقد يغرينا هذا إلى حد كبير بأن نؤمل كثيراً في المستقبل، ولسوف نرى علوماً جديدة تنبع من لا شيء، على حين أن ما عندنا منها لا يزال في المهد (٥٥).
وهكذا صاغ فونتنيل نظرية التقدم "تقدم الأشياء" وتصور، مثل كوندرسيه، أنه ليس لهذا التقدم حدود معينة يقف عندها في المستقبل، وهنا كان "بلوغ البشر حد الكمال بلا حدود". لقد وضعت النظرية القديمة قدمها على الطريق تماماً، وسارت بخطى ثابتة طيلة القرن الثامن عشر لتصبح أداة من أصلح أدوات الفكر الحديث.
وأنا لنجد، في تلك الأثناء، أن فونتنيل الذي كان خياله الرائع