ومن ثم سكب روحه في أشهر صورة قاطبة، وهي "الإبحار إلى جزيرة سيتير" وفيها نساء رشيقات استسلمن لإثارة الرجال فركبن السفينة مع عشاقهن إلى جزيرة صغيرة قيل أن لفينوس فيها معبداً، وأنها طلعت هناك من البحر وهي تقطر جمالاً. هنا يكاد الرجال يكسفون النساء في بهاء ملبسهم، ولكن الشيء الذي فتن الأكاديمية في اللوحة هو جلال الأشجار المتدلي، والقمة الثلجية للجزيرة البعيدة تصبغها الشمس، والغيوم الملامسة لها. وقد أحب فاتو هذا الموضوع الدقيق حباً أغراه برسمه في ثلاثة مناظر متنوعة-واستجابت باريس باختيارها فاتو ليحمل راية عصر الوصاية، ويحيي مباهج الحياة في نظام حكم سيموت حالما يسلخ شبابه. وغدا بلقبه الرسمي "مصور الأعياد المرحة"، رسام العشاق من أهل المدن يتنزهون نزهات حالمة في ريف هادئ مطمئن، ويمزجون بين "ايروس"(إله الحب) و "بان"(إله المراعي والغابات) في الدين الوحيد الذي دان به العهد. على أن نسمة اكتئاب تهب على هذه المشاهد التي توهم بخلو البال، فهؤلاء الفتيات الناعمات الطيعات ما كان يمكن أن يصبحن بهذه الرقة لولا أنهن خبرن شيئاً من الألم، أو ربما لم يساورهن الظن في قصر برهة الهيام بهن. تلك هي ميزة فاتو-الترجمة المرهفة للحظات الكمال التي لا بد أن تنقضي.
وعاجله الموت قبل أن ينعم بشهرته. وبعد موته اكتشف الخبراء رسومه القلمية والطباشيرية، وفضلها بعضهم على لوحاته الزيتية، لأن الطباشير أو القلم بلغ هنا دقة في تفصيل الأيدي والشعر، ورهافة تمييز في رسم العيون والوقفة والمروحة المعابثة لم تكشف عنها قط ألوان الزيت كل الكشف (٧٣). وأغرمت نساء باريس غراماً شديداً بأنفسهن كما رأيناها في أشوق الفنان الميت. وألبست "دنيا المجتمع الراقي" نفسها بأسلوب فاتو (ألا فاتو)، ومشت واتكأت بأسلوب فاتو، وزينت مخادعها وصالوناتها كما زينت هذه في أشكال خياله وألوانه. ودخل طراز فاتو في تصميم الأثاث، وفي حدات الزخرفة الريفية و "أرابسك" الركوك الرشيق. وتلقف الفنانون أمثال لانكريه وباتير تخصص فاتو، وصورا المهرجانات الريفية، وأحاديث الغزل، وحفلات الموسيقى في المنتزهات وحفلات الرقص على الخضرة،