بخمسين جنيهاً واثنتي عشرة نسخة- وهي صفقة ليست خاسرة جداً بالنسبة لكتاب في المنطق ونظرية المعرفة بقلم شاب مغمور في السابعة والعشرين. على أنه كان قمم من قمم الفلسفة الحديثة.
ب- الغض من شأن العقل
كشف "الإعلان" الذي تصدّر الكتاب عن ثقة هيوم في قدراته. فقد قال فيه أنه يستهدف دراسة الطبيعة البشرية من حيث الفهم والانفعالات، ثم في مجلد ثالث قادم من حيث الأخلاق والسياسة. وشرع في تحليل "الانطباع"(الإحساس)، والإدراك الحسي، والذاكرة، والخيال، والفكر، والعقل، والاعتقاد. وهذا البحث في كيفية وصولنا إلى أن "نعرف" بحث أساسي، لأن صحة العلم والفلسفة والدين والتاريخ تتوقف على طبيعة المعرفة، وأصلها، وإمكان وثوقنا بها. وهو فرع من الدراسة عسير، لأنه يتناول الأفكار المجردة لا الأشياء المحسة، والفكر آخر شيء يحاول الفكر أن يفهمه.
وبدأ هيوم بقبوله تجريبية لوك نقطة انطلاق لبحثه، فكل الأفكار مستقاة في النهاية من التجربة بطريق الانطباعات. وهذا أما أحاسيس خارجية كالضوء والصوت والحرارة والضغط والروائح والذوق؛ وأما داخلية كالخدر والجوع واللذة والألم. والإدراك الحسي إحساس مفسر؛ "فالضوضاء" إحساس، ولكن "نقرة على الباب" إدراك حسي (وهيوم ليس دقيقاً أو ثابتاً دائماً في استعماله هذين المصطلحين). والمولود أعمى أو أصم ليس لديه "فكرة" عن الضوء أو الصوت، لأنه لم يكن لديه إحساس بأحدهما. وفكرتا المكان والزمان نابعتان من التجربة، فالأولى "فكرة نقاط مرئية أو محسوسة موزعة بنظام معين"، والثانية إدراك التعاقب في انطباعاتنا (٨١) ولا تختلف الأفكار عن الانطباعات إلا في ضعف "القوة والحيوية التي تقع بهما على الذهن (٨٢) ". والاعتقاد "ليس إلا فهماً أكثر حيوية وحدة لأي فكرة … إنه شيء يشعر به الذهن، يميز أفكار الحكم عن خرافات الخيال (٨٣) ".
ويبدو أن هيوم في تعريفاته هذه يرى في "الذهن" كياناً أو أداة