وثمة شكل موسيقي وجد سبيله إلى جميع مؤلفاته الأوركسترالية تقريباً- وهو الفوجه. وقد وفدت كمعظم الأشكال الموسيقية من إيطاليا، ولاحقها الألمان في مطاردة مشبوبة طغت على موسيقاهم حتى مجيئ هايدن. وأجرى عليها باخ تجاربه في "فن الفوجة"، فأخذ فكرة واحدة وبنى منها أربع عشرة فوجة وأربعة اتباعات في متاهة فن مزج الألحان تبين كل ضرب من التقنية الفوجية. وقد خلف المخطوطة ناقصة عند موته، فنشرها ابنه كارل فليب إيمانويل (١٧٥٢) ولم يبع منها غير ثلاثين نسخة. ولا عجب فعصر البوليفوني (تعدد النغمات)، والفوجة كان في طريقه إلى الزوال بزوال أعظم أساتذته، وأخذ فن مزج الألحان يخلى السبيل للهارمونى.
ولم يكن ولوعاً بالكمان ولعه بالأرغن وموترة المفاتيح. لقد بدأ حياته عازف كمان أحياناً يعزف على الفيولا في المجموعات الموسيقية التي يقودها في نفس الوقت، ولكن بما أن أحداً من معاصريه أو أبنائه لم يذكر شيئاً عن عزمه على الكمان، فلنا أن نفترض أنه لم يكن يتجلى في تلك الآلة. على أنه لا بد كان قديراً في العزف عليها، لأنه ألف للكمان وللفيولا موسيقى غاية في الصعوبة، يغلب على الظن أنه كان على استعداد لعزفها بنفسه. وتعرف دنيا الموسيقى الغربية كلها "الشاسون" التي اختتم بها بارتيتا بمقام D الصغير الكمان المفرد، فهي آية في الأسلوب الفني ألف كل عازف كمان أن يهفو إليها هدفاً أعظم له. وقد يرى فيها بعضنا استعراضاً كريهاً من الحواية والشعوذة- أشبه بحصان يعذب قطة على مراحل عديدة. أما عند باخ فقد كانت محاولة جريئة ليحقق على الكمان عمق الأرغن وقوته اليوليفونيين. فلما نقل بوزوني اللحن إلى البيانو، أصبحت اليوليفونية أكثر طبيعية، وكانت النتيجة باهرة. (وعلينا ألا نتعالى على هذه المنقولات وإلا وجب أن ندين باخ ذاته).
فإذا وصلنا إلى مؤلفات باخ التي أعدها لأوركستراه الرقيق، وجدت فيها حتى الأذن في المحترفة الكثير مما يشبه القصائد التي تتغنى للفرح والبهجة. ولا بد أن الهدية الموسيقية التي أهداها لفردريك الأكبر قد أبهجته بألحانها المتألقة وهزته بأنغامها المتألقة نصف الشرقية. وقد كتب باخ بالإضافة