فلم يناكده أحد بسببه. وحاول أن يكفر عن إساءته لجان دارك بتصويرها صورة أكثر إنصافاً وجداً في كتابه "مقال عن الأعراف"(٣٤).
وقد قصد بهذا المقال أن يكون رائعته الكبرى، وكان أيضاً-بمعنى من المعاني-أثراً يخلد العشيقة التي استعاد ذكراها. ذلك أنه تقبل الاحتقار الذي صبته مدام دشاتليه على من عرفت من مؤرخين محدثين على أنه تحد له: قالت "ماذا يهمني، أنا المرأة الفرنسية التي تسكن ضيعتها هذه أن أعرف أن إيجل خلف هاكون على عرش السويد، وأن عثمان كان ابن أرطغرل؟ إنني قرأت بلذة تاريخ اليونان والرومان، ولقد قدموا لي صوراً رائعة اجتذبتني، ولكني لم أستطع إلى الآن أن أكمل قراءة أي تاريخ مطول لأممنا الحديثة. ولا أكاد أرى في هذه التواريخ شيئاً غير الخلط والتشويش: فهي حشد من الأحداث الصغيرة التي لا ترابط بينها ولا تسلسل، وألف معركة لم تحسم شيئاً. لقد زهدت في دراسة تغرق العقل دون أن تنيره (٣٥).
ووافقها فولتير على هذا الرأي، ولنه كان يعرف أن هذا ليس إلا التاريخ "كما يكتب". ولقد أسف على مسخ الأهواء الحاضرة للماضي، ففي هذا المعنى "ليس التاريخ إلا مجموعة حيل ندخلها على الموتى (١)(٣٦) ومع ذلك فإن إغفال التاريخ معناه أن تكرر إلي مالا نهاية أخطاءه، ومذابحه، وجرائمه. وهناك ثلاثة مسالك تفضي إلى هذا المنظور الفسيح السمح الذي يسمى الفلسفة: أولها دراسة البشر في الحياة عن طريق التجربة، الثاني دراسة الأشياء في المكان عن طريق العلم، الثالث دراسة الأحداث في الزمان عن طريق التاريخ. وحاول فولتير أن يسلك المسلك الثاني بدراسة نيوتن؛ ثم اتجه الآن إلى الثالث. ومنذ عام ١٧٣٨ وضع هذا المبدأ الجديد "يجب أن يكتب المرء التاريخ مفلسفاً (٣٨). وعليه فقد عرض على المركيزة ما يلي:
لو أنك تخيرت من بين هذا القدر الوافر من المادة الغفل التي لم تتشكل ما تبنين به صرحاً لاستعمالك الخاص، ولو أنك رغم إسقاطك كل تفاصيل الحروب … وكل المفاوضات التافهة التي لم تكن سوى ألوان من الخبث
(١) الظاهر أن فنيلون، لا فولتير، هو القائل إن "التاريخ ليس إلا خرافة متفقا عليها" (٣٧). ولكن الاتفاق ليس واضحاً.