وبدت له العصور الوسطى في العلم المسيحي فاصلا مقفراً بين جوليان ورابليه، ولكنه كان من أول من اعترفوا بدين الفكر الأوربي لعلم العرب وطبهم وفلسفتهم. وأشاد بلويس التاسع مثلا أعلى للملك المسيحي، ولكنه لم ير نبلاً في شرلمان، ولا فهماً في الفلسفة المدرسة (الكلامية)، ولا عظمة في الكاتدرائيات القوطية التي أنكرها لأنها "خليط غريب من الجلافة والتخريم" ولم يكن متوقعاً من روحه المطاردة أن تقدر دور العقيدة والكهانة المسيحيتين في تشكيل الخلق والفضائل وحفظ النظام والسلام في المجتمعات، وتشجيع كل الآداب والفنون تقريباً، وإلهام الموسيقى الرائعة، وتجميل حياة الفقراء بالمراسيم والأعياد والتراتيل والأمل. ولا عجب، فلقد كان إنساناً يخوض حرباً، ولا يستطيع إنسان أن يقاتل ما لم يتعلم الكراهية. والغالب وحده هو الذي يستطيع تقدير عدوه حق قدره.
أكان مصيباً في وقائعه؟ عموماً، ولكنه ارتكب أخطاء بالطبع، وقد نشر الأبيه نونوت مجلدين بعنوان "أغلاط فولتير"، وأضاف بعضاً من أغلاطه هو (٤٧). ولكن روبرتسن، وهو مؤرخ كبير، أعجب بدقة فولتير عموماً في هذا الميدان الشاسع (٤٨). ولما كان فولتير يغطي هذه المواضيع الكثيرة في هذه الأقطار الكثيرة خلال قرون كثيرة، فهو لم يدع أنه تقيد بالوثائق الأصلية أو المصادر المعاصرة، ولكنه استعمل مراجعه الثانوية بتمييز ووزن حكيم للشواهد. ورسم لنفسه قاعدة هي التشكك في أي شهادة تناقص "الحسن المشترك" أو الخبرة العامة للنوع الإنساني. ولا ريب في أنه كان معترفاً في أيامنا هذه بأن غرائب عصر ما قد تقبل في العصر الذي يليه على أنها أمور عادية، ولكنه وضع هذا المبدأ الهادئ، وهو "أن عدم التصديق هو الأساس لكل أنواع المعرفة"(٤٩). وهكذا سبق بارتولد نيبور في رفضه الفصول الأولى لليفي لأنها من قبيل الأساطير، وسخر من قصة رومولوس، وريموس، والذئبة التي كانت لهما الأم الرؤم، وسخف مزاعم ليفي، واتهم تاسيتوس بالمبالغات الانتقامية في وصفه لرذائل طبباريوس، وكلوديوس، ونيرون، وكاليجولا؛ وارتاب في هيرودوت وسوتنيوس لأنهما مروجان للشائعات والأقاويل، وذهب إلى أن في بلوتارخ من الولع بالنوادر ما لا يجعله موضع الثقة الكاملة، ولكنه قبل تيوسبديدس، وزينوفون،