وكان لديدرو خيال عقلاني، فتخيل الأفكار والفلسفات والشخصيات كما يتخيل الآخرون الأشكال والمشاهد. ومن غيره كان يستطيع في زمانه أن يتصور "أين أخي رامو" المخزي اللا أخلاقي الفاتن. إنه بعد أن يخلق أحد شخوصه يدعه ينمو ويتطور وكأنما يفعل ذلك طواعية وأختياراً. ثم يدع هذه الشخصية تقوده، وكأنما المؤلف هو الدمية المتحركة أو الألعوبة. إنه تخيل نفسه في مكان راهبة شابة كارهة ثم جعلها حقيقة إلى حد أن المتشككين الفرنسيين تولاهم الجزع لمحنتها. أنه جرب الأفكار تجريباً عقلياً، وتمسك بها بعض الوقت، وتخيل نتائجها منطقياً أو عملياً، ثم طرحها جانباً. وما كادت توجد فكرة في هذا العصر إلا دارت بخلده. أنه واقعياً لم يكن مجرد موسوعة متحركة، بل كان معملاً متنقلاً. سارت أفكاره معه أينما سار.
وهكذا فإن ديدرو في كتابه "بعض الأفكار في تفسير الطبيعة" الذي نشره في ١٧٥٤ غفلاً من أسم المؤلف، بترخيص ضمني من الرقيب الكريم المحسن مالشرب -تلاعب عن الأحدية (القول بأن ثمة مبدأ غائباً واحداً، كالعقل أو المادة. القول بأن الحقيقة كل عضوي واحد). والمادية والآلية والحيوية (المذهب الحيوي الذي يقول بأن الحياة مستمدة من مبدأ حيوي وأنها لا تعتمد أعتماداً كلياً على العمليات الفيزيائية والكيميائية) والتطور. وكان لا يزال متأثراً ببيكون وأخذ عنه العنوان والصيغة الحكيمة ودعوة رجال العلم ليتكاتفوا في العمل على قهر الطبيعة عن طريق التجريب والعقل. وتأثر كذلك بكتاب موبرتيوس "منهج عام للطبيعة"(١٧٥١) وكتاب بيفون (التاريخ الطبيعي (١٧٤٩). وأتفق مع موبرتيوس على أن كل مادة قد تكون حية، ومع بيفون في أن علم الحياة (البيولوجيا) مستعد الآن للتحدث إلى الفلسفة. ورحب عند المؤلفين كليهما بفرضية التطور الناشيءة.
وبدأ ديدرو بمخطط ضخم:(إنها الطبيعة هي التي أريد أن أصفها، إن الطبيعة هي الكتاب الوحيد أمام الفيلسوف (٥) وتصور أن الطبيعة قوة