"إن الجنس البشري إذا تأملناه من القدم يبدو لعين الفيلسوف كلاً مترامي الأطراف، له مثل الكائن الفرد مرحلة طفولته وتقدمه … فتصبح آداب السلوك أكثر رقة وتهذيباً والذهن أكثر تنوراً، وتتقارب بعضها من بعض الأمم التي كانت آنذاك منعزلة، وتربط التجارة والعلاقات السياسية أركان الكرة الأرضية بعضها ببعض، ويستمر الجنس البشري بأسره فيما بين تقلبات الهدوء والعاصفة وتقلبات الأيام حلوها ومرها في مسيرته قدماً، ولو بخطى وئيدة نحو كمال يقرب منه دوماً (٨٣). ووافق فولتير على هذا متردداً، فهو يقول:
"قد نؤمن بأن العقل والصناعة سوف تتقدمان أكثر فأكثر، وتتحسن الفنون الناقصة. وأنه من بين الشرور والمساوئ التي تنتاب بني الإنسان ستختفي شيئاً فشيئاً الحزازات بين من يحكمون الأمم، ولو أن تلك الحزازات ليست أقل الكوارث، وأن الفلسفة بانتشارها على أوسع نطاق سيكون فيها عزاء لأرواح البشر عن المصائب التي يتعرضون لها في كل العصور (٨٤)".
ورحب الفيلسوف المحتضر بتولي ترجو زمام السلطة في ١٧٧٤ لأنه ليس لديه ثقة بالجماهير. وتعلقت لآماله باستنارة الملوك. إننا لا نستطيع تعليم الرعاع والغوغاء-كما كان يسمى عامة الناس-لأنهم منهوكون بالكد والكدح قبل أن يتعلموا التفكير. ولكن في مقدورنا أن نعلم قلة تقترب من الذروة فيعلمون الحاكم أو الملك. أن حلم "المستبدين المستنيرين" هذا باعتبارهم قادة مسيرة الجنس البشري، كان رسالة الملكية "المحفوفة بالمخاطر التي بنى عليها معظم الفلاسفة رؤيتهم للتقدم، وكان لديهم هواجس كثيرة تنذر بالثورة، ولكنهم أوجسوا منها خيفة أكثر مما رغبوا فيها. ووثقوا أن العقل قد يكسب الطبقة الحاكمة إلى جانبه، وأن الوزراء والحكام قد يستمعون إلى صوت الفلاسفة وينفذون الإصلاحات التي تحول دون الثورة، وتسير بالجنس البشري على طريق السعادة ومن ثم رحبوا بإصلاحات فردريك الثاني، واغتفروا آثام كاترين الثانية. ولو أنهم عاشوا لابتهجوا