المشكلة إن كان لها أن تواجهنا في أي موضع: ما الدور الذي لعبته العبقرية في التاريخ، ما دور الإنسان إزاء المجتمع والدولة؟
كانت أوربا آنئذ مهيأة لإنجيل يبوئ الوجدان مكاناً فوق الفكر فلقد سئمت قيود التقاليد والأعراف، والآداب، والقوانين. وسمعت ما يكفي عن العقل، والجدل العقلي، والفلسفة، وبدا أن كل هذه الفوضى، فوضى العقول التي أطلق حبلها على غاربها، قد جردت الدنيا من المعنى، وعطلت النفوس من الخيال والرجاء، وكان الرجال والنساء بينهم وبين أنفسهن تواقين للعودة إلى حظيرة الإيمان. لقد ملت باريس، ملت الضجيج والعزلة، وسجن حياة المدينة وتزاحمها المجنون، وهفت الآن إلى حلم حياة الريف الأكثر هوناً، الحياة التي قد يجلب نظامها الرتيب البسيط للبدن صحة وللعقل سلاماً، والتي يرى فيها الإنسان من جديد نساء تزينهن الحشمة والحفر، والتي تلتقي فيها القرية كلها في كنيسة الأبرشية في هدنة أسبوعية. قم ما بال هذا "التقدم" الذي يزهون به، و"تحرير العقل" هذا الذي يفاخرون به-هل أحلا شيئاً محل ما دمراه؟ هل أعطيا الإنسان صورة للعالم ومصير الإنسان أكثر وضوحاً للإفهام أو إلهاماً للنفوس؟ هل حسنا حظوظ الفقراء، أو أتيا بالعزاء والسلوى للمحزونين على فقد الأعزاء أو للمتألمين المكروبين؟ سأل روسو هذه الأسئلة، وأضفى الشكل والإحساس على هذه الشكوك، فأصغت إليه أوربا بأسرها بعد أن أخمد صوته. وبينما كان فولتير يعيد على المسرح في الأكاديمية (١٧٧٨)، وبينما كان روسو الموبخ المزدرى يختبئ في ظلام حجرة من حجرات باريس، بدأ عصر روسو.
ولقد ألف أشهر ترجمة ذاتية في أخريات أيامه، وهي كتابه "الاعترافات". ذلك أنه-وهو الرجل الحساس لكل نقد الظنون الذي خال جريم، وديدرو، وغيرهما يأتمرون به ليشوهوا سمعته في صالونات باريس وفي "مذكرات" مدام دينيه-هذا الرجل بدأ عام ١٧٦٨، بإلحاح من أحد الناشرين، كتابة قصته هو ليروي سيرته وخلقه. وكل التراجم الذاتية بالطبع غرور في غرور، غير أن روسو-الذي أدانته الكنيسة، وحمته من حماية