روسو مدرسة سان-لازار اللاهوتية ليحضر للقسوسة. وكان قد ألف الكاثوليكية الآن بل شغف بها (٣٠)؛ أحب فيها طقوسها المهيبة، ومواكبها، وموسيقاها، وبخورها، وأجراسها التي خالها تعلن على الملأ كل يوم أن الله في سمائه، وأن العالم بخير أو سوف يكون بخير، أضف إلى ذلك أن مذهباً يستهوي مدام دفاران ويغفر لها خطاياها لا يمكن أن يكون سيئاً. غير أن التعليم المدرسي الذي حصله من قبل كان من الضآلة بحيث اقتضى الأمر أن يفرض عليه منهج مركز في اللاتينية. ولكنه لم يستطع صبراً على تصاريف أسمائها وصفاتها وأفعالها، وبعد خمسة أشهر من الجهد والعرق رده معلموه إلى مدام دفاران بتقرير يقول أنه "غلام لا بأس بتقواه" ولكنه لا يصلح كاهناً.
وحاولت مساعدته من جديد. ودعاها ما لاحظته من ميله للموسيقى إلى تقديمه إلى نيكولوز لوميتر، عازف الأرغن في كتدرائية آنسي وذهب جان-جاك ليعيش معه طوال شتاء ١٧٢٩ - ٣٠، وعزاؤه أنه لا يبعد عن ماما سوى عشرين خطوة. وراح يرتل في فرقة الترتيل ويعزف على الفلوت، وأحب الترانيم الكاثوليكية، ووجد الغذاء الطيب، وكان سعيداً. ولم يعكر عليه صفو العيش مع المسيو لوميتر غير إسراف هذا العازف في الشراب. وذات يوم تشاجر رئيس فرقة الترتيل الصغير مع رؤسائه، فجمع كراسات موسيقاه في صندوق، ورحل عن آنسي. وامرت مدام دفاران روسو أن يصحبه حتى ليون. هناك سقط لوميتر على الطريق مغشياً عليه بفعل (البطاح) أي هذيان الحمى الذي يصيب مدمني الخمر. واستغاث جان-جاك بالمارة وقد أصابه الرعب، وأعطاهم العنوان الذي كان مدرس الموسيقى يبحث عنه، ثم فر راجعاً إلى آنسي وماما. "أن تعلقي بها بكل ما فيه من حساسية وصدق اقتلع من قلبي كل مخطط يمكن تصوره وكل حماقات الطموح. فلم أر سعادة في غير العيش بقربها، وما كنت لأخطو خطوة دون أن أشعر أن المسافة بيننا قد بعدت (٣١) ". ولكن علينا أن نذكر أنه لم يتجاوز يومها الثامنة عشرة.