فلما وصل إلى آنسي وجد أن المدام قد رحلت إلى باريس ولا أحد يعرف متى تعود. وأحس أنه وحيد مهجور، فراح ينفق اليوم تلو اليوم هائماً على وجهه في الريف، يتأسى بالمنظر إلى ألوان الربيع المشرقة وسماع زقزقة الطيور-هذه الطيور العاشقة بلا ريب. وكان أحب الأشياء إليه أن يستيقظ مبكراً ويرقب الشمس تطلع ظافرة فوق الأفق. ورأى في إحدى جولاته تلك آنستين راكبتين، تحثان جواديهما المترددين على خوض غدير أمامهما. وفي نوبة من نوبات البطولة أمسك بعنان أحد الجوادين وعبره الماء والآخر يتبعه. وكان على وشك المضي إلى حال سبيله لولا أن الفتاتين أصرتا على أن يصحبهما إلى كوخ يجفف فيه حذاءه وجواربه، فوثب على ظهر أحد الجوادين خلف الآنسة ج. تلبية لدعوتها "فلما اضطررت إلى الإمساك بها لأستقر في مكاني راح قلبي يدق وكانت دقاته من العنف بحيث أحست بها"(٣٢) في تلك اللحظة بدأ يكبر في هيامه بمدام دفاران. وأنفق الشباب الثلاثة يومهم في رحلة خلوية معاً، وتجرأ روسو فقبل يد إحدى الفتاتين ثم تركتاه، فقفل إلى آنسي لا يكاد يعبأ بغياب ماما عنها. وقد حاول العثور على الآنستين ثانية، ولكن دون جدوى.
وما لبث أن عاد يضرب في الأرض من جديد، واصطحب هذه المرة خادمة مدام دفاران إلى فريبورج. وإذا اخترق جنيف "ألفيتني متأثراً بالغ التأثر حتى لم أكد أقوى على المضي في طريقي … فقد رفعت صورة الحرية (الجمهورية) روحي إلى الذرى"(٣٣). ومن فيبورج مشى إلى لوزان. ولم يعرف التاريخ كاتباً شديد الولع بالمشي مثله. فمن جنيف إلى تورين إلى آنسي إلى لوزان إلى نوشاتل إلى برن إلى شامبري إلى ليون عرف الطريق واستمتع شاكراً بالمناظر والروائح والأصوات.
"يطيب لي أن أمشي على سجيتي، وأن أقف حيث أشتهي، فحياة المشي ضرورية لي. والسفر على الأقدام، في ريف جميل، وجو بديع،