وبهدف لطيف أختم به رحلتي-هذا أنسب ما يروقني من ضروب العيش" (٣٤).
ذلك أنه لعدم شعوره بالاطمئنان في حضرة الرجال الذين أصابوا حظاً من التعليم، وبالخجل والعي في خضرة النساء الجميلات، كان يسعد إذا انفرد بالغابات والحقول، والماء، والسماء، فجعل من الطبيعة مستودع سره ونجواه وأفضى إليها بغرامياته وأحلامه في حديث صامت. وخيل إليه أن حالات الطبيعة المتقلبة تمتزج أحياناً في تناغم صوفي مع حالته النفسية. ولم يكن أول من أشعر الناس بجمال الطبيعة، إلا أنه كان أشد رسلها تحمساً لها وتأثيراَ فيهم فنصف شعر الطبيعة منذ روسو هو جزء من تراثه، لقد شعر هاللر من قبل بجلال جبال الألب ووصفه، ولكن روسو جعل من سفوح سويسرا على طوال الساحل الشمالي لبحيرة جنيف ملكه الخاص، وأورث الأجيال عبير كرومها المدرجة. فلما أراد اختيار موقع لبيت يسكنه شخصيتي جولي وفولمار أسكنهما هنا، في كلارنس بين فيفيه ومونترو، في فردوس أرضي امتزجت فيه الجبال والخضرة والماء والشمس والثلوج.
وانتقل إلى نوشاتل حين لم يصب نجاحاً في لوزان "هنا .... بفضل تدريسي للموسيقى اكتسبت بعض الإلمام بها دون وعي مني. " (٣٥)
وفي بلدة قريبة تدعى بودري التقى بحبر يوناني يلتمس بعض المال لترميم كنيسة القبر المقدس في أورشليم، فرافقه روسو مترجماً له، ولكنه تركه في سوليو ومشى خارجاً من سويسرا داخلاً فرنسا. وفي أثناء سيره دخل كوخاً وسأل صاحبه أيستطيع شراء طعام، فقدم له الفلاح خبز الشعير واللبن، وقال إن هذا كل ما يملك، ولكنه حين رأى أن جان-جاك ليس جابي ضرائب فتح باباً مسحوراً نزل منه ثم عاد بخبز قمح، وبيض، ونبيذ. وعرض روسو أن يدفع ثمن طعامه، ولكن الفلاح أبى أن يقبله، وعلل سلوكه بأنه مضطر إلى إخفاء خير الطعام مخافة أن يفرض عليه المزيد من الضرائب. إن ما قاله لي .. خلف في ذهني أثراً لا يمحى،