للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في الشكوك التي أعرب عنها مونتيني في مقاله "عن آكلة لحوم البشر" وسمع غيرهم فيه بصوت بسكال يرتد من العلم إلى الدين، وبالطبع كان مئات من "اللاهوتيين والقديسين" قد أدانوا الحضارة منذ زمن بعيد باعتبارها مرضاً أو خطيئة. وكان في وسع اللاهوتيين أن يزعموا أن "براءة" الحالة الطبيعية وسعادتها التي قال بها روسو، والتي سقط منها الإنسان، ليست إلا قصة جنة عدن معادة، فحلت "الحضارة" محل "الخطيئة الأصلية" علة في سقوط الإنسان، وفي كلتا الحالتين قضت الرغبة في المعرفة على سعادة الإنسان. أما المفكرون المعتزون بعلمهم مثل فولتير عجبوا لرجل في السابعة والثلاثين يكتب هذه المرثية الصبيانية ليهاجم منجزات العلم، ونعمة السلوك المهذب، وإلهامات الفن، وإما الفنانون أمثال بوشيه فلعلهم كانوا يتلوون ألماً تحت سوط روسو، ولكن فنانين آخرين مثل شاردان ولاتور كان في وسعهم أن يرموه بالتعميم العشوائي، وأما الجنود فقد سخروا من إشادة هذا الموسيقار الرقيق بالصفات العسكرية وبالتأهب الدائم للحرب.

واعترض جريم، صديق روسو، على أي رجوع إلى "الطبقية" فقال متعجباً "ياله من هراء شيطاني!: ثم سأل سؤالاً شائكاً، ما الطبقية (٨١)؟ " فلقد لاحظ بيل أنه لا تكاد توجد كلمة تستعمل استعمالاً أكثر غموضاً من كلمة … الطبيعة … وليسمن المؤكد "أنه لأن شيئاً ما مصدره الطبيعة فهو إذن خير وصواب: فنحن نرى في النوع البشري أشياء سيئة جداً مع أنه لا يتطرق إلينا شك في أنها من عمل الطبيعة". (٨٢) ولا ريب أن مفهوم روسو عن الطبيعة البدائية كان تصويراً رومانسياً للطبيعة في حالتها المثالية. فالطبيعة (أي الحياة دون تنظيم وحماية اجتماعيين) "حمراء في الناب والمخلب" وناموسها الأساسي هو: أقتل وإلا قتلت. والطبيعة التي أحبها جان-جاك؛ كما يتجلى حبه في قيقيه أو كلارنس كان ضرباً متحضراً من الطبيعة، روضها وهذبها الإنسان. والحق أنه لم يرد أن يرتد إلى الأحوال البدائية بكل ما انطوت عليه من قذارة، وخطر، وعنف بدني، إنما أراد أن يعود إلى الأسرة الأبوية التي تفلح الأرض وتعيش على ثمارها، وهفت