للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نفسه إلى التحرر من قواعد المجتمع المهذب وقيوده-ومن الأسلوب الكلاسيكي، أسلوب الاعتدال والعقل. وقد أبغض باريس وحن إلى شارميت وقبيل ختام حياته، في كتابه "أحلام جوال وحيد" صور هذه الفكرة القاصرة تصويراً مثالياً فقال:

ولدت أكثر الناس ثقة بالناس، ولم تخذل هذه الثقة ولو مرة واحدة طوال أربعين سنة. فلما وقعت فجأة بين صنف آخر من الأشخاص والأشياء انزلقت إلى مئات الفخاخ .. واقتنعت أنه ليس في مظهر الابتسامات المتكلفة التي أغدقت على غير الغش والكذب، فانتقلت بسرعة من النقيض إلى النقيض .... وأصبحت أشمئز من الناس … وأنا لم أعتد قد اعتياداً حقيقياً على المجتمع الحضري الذي كل ما فيه هم وإكراه والتزام، والذي يجعلني استقلالي الفطري عاجزاً فيه على الدوام عن ألوان الخضوع التي لا مندوحة عنها لكل من يريد العيش بين الناس (٨٣).

وفي "الاعترافات" سلم في شجاعة بأن هذا "المقال" الأول (كان مفتقراً الافتقار كله إلى المنطق والنظام وإن زخر بالقوة والحرارة؛ فهو أضعف ما كتبت إطلاقاً من حيث الحجة، وأخلاه من الإيقاع والانسجام (٨٤)).

ومع ذلك فقد رد على نقاده بقوة، وأكد مفارقاته من جديد. ومجاملة لستانسلاس استثنى شيئاً واحدا: فقال أنه بعد الروية قرر ألا تحرق المكتبات أو تغلق الجامعات والأكاديميات "لأننا لن نجني من وراء هذا إلا إغراق أوربا مرة أخرى في دياجير الهمجية (٨٥) "؛ و"حين يفسد البشر فإن من الخير لهم أن يكونوا متعلمين عن أن يكونوا جهلة" (٨٦). ولكنه لم يعدل عن أي فقرة من اتهامه للمجتمع الباريسي. ودليلاً على انسحابه منه أقلع عن لبس السيف والضفيرة الذهبية والجوارب البيضاء، وارتدى ما يرتديه رجال الطبقة الوسطى من رداء بسيط وباروكة أصغر. قال مارمونتيل "وهكذا منذ تلك اللحظة اختار الدور الذي سيلعبه، والقناع الذي سيلبسه". فإن كان هذا قناعاً فإنه أحسن لبسه، وأصر عليه إصراراً شديداً، حتى لقد أصبح جزءاً من صميم الرجل وغير وجه التاريخ.