فقيرة تعسة، ففتح لها كيس نقوده، ثم واصل رحلته إلى جنيف. هناك رحب به القوم ابناً ضالاً قد ثاب إلى رشده: ويبدو أنه وقع إقراراً يؤكد فيه من جديد عقيدته الكلفنية (١٠٤)؛ وأغتبط رجال الدين الجنيفيون باستعادتهم "موسوعياً" إلى حظيرة إيمانهم الإنجيلي ورد إليه اعتباره مواطناً، وراح بعدها يوقع في فخر "جان-جاك روسو، المواطن": قال:
"تأثرت تأثراً بالغاً بما لقيت من عطف … المجلس (المدني) والمجمع (الكنسي) وعظيم احترام القضاة، والوزراء، والمواطنين، وحفاوتهم بي .... حتى إنني أقلعت عن فكرة العودة إلى باريس إلا لفظ إدارة البيت، والعثور على مل للسيد لفاسير وزوجته، أو تدبير أمر معاشهما، ثم العودة مع تريز إلى جنيف لأستقر فيها ما بقي لي من عمر (١٠٥) ".
واستطاع الآن أن يتذوق جمال البحيرة وشواطئها تذوقاً أكمل مما فعل في صباه "لقد احتفظت بذكرى حية … لطرف البحيرة الأبعد، وكتبت له وصفاً بعد سنوات في هلويز الجديدة". ودخل الفلاحون السويسريون في حلم الفردوس الريفي الذي سيصفه في تلك الرواية: فهم ملاك لمزارعهم لا يخضعون لضريبة رؤوس أو سخرة، يشغلون أنفسهم بالحرف المنزلية في الشتاء، ويقفون في قناعة بمنأى عن ضجيج العالم وصراعه. وكانت ذكرى دويلات المدن السويسرية عالقة بذهنه وهو يصف مثله السياسي الأعلى في كتاب "العقد الاجتماعي".
وفي أكتوبر ١٧٥٤ قصد باريس على وعد بالعودة منها سريعاً. ووصل فولتير إلى جنيف بعد رحيل روسو عنها بشهرين، واستقر به المقام في فيلا ديليس. واستأنف جان-جاك في باريس صداقته لديدرو وجريم، دون أن تبلغ من الثقة ما بلغته من قبل. ولما نمى إيه نبأ موت مدام دولباخ كتب إلى البارون خطاب تعزية رقيقاً؛ وتصالح الرجلان، وعاد روسو يؤاكل الزنادقة، وظل ثلاثة أعوام أخر يبدو من جميع