أولاً دولة صغيرة جداً يمكن جمع الشعب فيها عاجلاً، ويمكن لكل مواطن فيها أن يعرف سائر المواطنين بسهولة؛ ثانياً، الباسطة التامة في العادات، منعاً لتكاثر الأعمال وإثارة المشاكل الشائكة، ثم قدر كبير من المساواة في الرتب والثروات بدونه لا تستطيع المساواة في الحقوق والسلطة البقاء طويلاً، وأخيراً قلة الترف أو انعدامه، لأن الترف مفسدة للأغنياء والفقراء جميعاً-للأغنياء بالاقتناء، وللفقراء بالاشتهاء .. وهذا هو ما حدا كاتباً شهيراً (مونتسكيو) إلى اعتبار الفضيلة المبدأ الأساسي للجمهوريات، لأن هذه الظروف كلها لا يمكن توافرها بغير الفضيلة .. ولو كان هناك شعب من الآلهة لكانت حكومة ديمقراطية أما البشر فليست هذه الحكومة البالغة الكمال مما يناسبهم (١٣).
وقد تغري هذه الفقراء بسوء التفسير. فروسو يستخدم لفظ "الديمقراطية" بمعنى ندر أن ينسب له في السياسة أو التاريخ، وهو أنها حكومة تشرع فيها كل القوانين بواسطة الشعب كله المجتمع في مجالس قومية. والواقع أن "الأرستقراطية الانتخابية" التي فضلها هي ما يجب أن نسميه الديمقراطية النيابية-أي الحكومة التي يتولاها موظفون يختارهم الشعب لما يفترض فيهم من صلاحية عليا. على أن روسو يرفض الديمقراطية النيابية على أساس أن الممثلين أو النواب سرعان ما يشرعون لمصلحتهم لا للخير العام. "أن الشعب الإنجليزي يعتبر نفسه حراً ولكنه يخطئ بذلك خطأ فاحشاً؛ فهو حر فقط خلال انتخاب أعضاء البرلمان؛ وما إن يتم انتخابهم حتى تسيطر العبودية على الشعب فلا يعود له وزن"(١٤). فالممثلون يجب أن ينتخبوا ليشغلوا المناصب الإدارية والقضائية لا ليشرعوا، ويجب أن تشرع جميع القوانين بواسطة الشعب في جمعية عامة، وأن يكون لتلك الجمعية سلطة إقالة الموظفين المنتخبين (١٥). ومن ثم وجب أن تكون الدولة المثالية من الصغر بحيث تسمح لجميع المواطنين بالاجتماع مراراً كثيرة. "وكلما اتسعت الدولة تقلصت الحرية"(١٦).
أكان روسو اشتراكياً؟ إن "المقال" الثاني نسب جميع رذائل الحضارة إلى إقرار الملكية الخاصة، ولكن حتى ذلك المقال رأى أن هذا النظام أعمق