(١٦٤٢) قبل مولد روسو بزمن طويل الفكرة التي تزعم أن الناس ولدوا متساوين، فهم في ميلادهم خاضعون للسلطان الأبوي ولقانون الجماعة وعاداتها. وروسو نفسه، بعد الصرخة الأولى للدفاع عن الحرية، أخذ يبتعد عن الحرية أكثر فأكثر متجهاً إلى النظام-إلى خضوع الفرد للإرادة العامة. والتناقضات التي تلحظها في مؤلفاته هي أساساً بين خلقه وفكره، فلقد كان فردياً متمرداً بحكم مزاجه، وعلته، وافتقاره إلى الانضباط، وكان بيئياً (لا شيوعياً إطلاقاً، ولا حتى جماعياً) بحكم إدراكه المتأخر لاستحالة تكوين المجتمع الفعال من الخوارج. وعلينا أن نحسب حساباً للتطور، فأفكار إنسان ما هي دالة خبرته وعمره، ومن الطبيعي للمفكر أن يكون فردي النزعة في شبابه-فيحب الحرية ويبحث عن المثل العليا-وأن يكون معتدلاً حين ينضج، فيحب النظام ويرتضي الممكن. وقد ظل روسو من الناحية العاطفية طفلاً طوال حياته، ينكر العرف، والمحظورات، والقوانين، ولكنه حين فكر تفكيراً منطقياً أدرك أن في الإمكان بقاء الكثير من الحريات في نطاق القيود الضرورية للنظام الاجتماعي، وانتهى إلى أن يدرك أن الحرية في مجتمع ما ليست ضحية القانون بل ثمرته-وأنها تتسع ولا تضيق بطاعة الجميع لقيود يفرضونها على أنفسهم جماعة. وفي وسع الفوضويين الفلسفيين والشموليين السياسيين جميعاً أن يستشهدوا بروسو تأييداً لدعواهم (٣٧)، وكلا الفريقين لا حق له في الاستشهاد، لأنه اعترف بأن النظام أول قوانين الحرية، والنظام الذي دافع عنه يجب أن يكون التعبير عن الإرادة العامة.
وقد نفى روسو أي تناقضات حقيقية في فلسفته فقال "كل أفكاري متسعة، ولكني لا أستطيع عرضها كلها مرة واحدة (٣٨) ". وسلم بأن كتابه "في حاجة إلى أن يكتب من جديد، ولكني لست أملك من العافية ولا الوقت ما يسمح لي بذلك (٣٩) "، فحين كانت العافية متاحة له سلبه الاضطهاد وقته، وحين كف الاضطهاد وأتيح له الفراغ، كانت العافية قد تضاءلت. وفي تلك السنوات الأخيرة بات يتشكك في حججه، "أن الذين يفاخرون بأنهم فهموا "العقد الاجتماعي" فهماً تاماً أذكى مني". وقد أغفل تماماً، من الناحية العملية، المبادئ التي وضعها فيه، ولم يخطر بباله قط أن