وعليه وجب أن نتقبل الدين على أنه في مجموعه عطية كبرى للبشر ول حاجة بنا إلى أن نعلق أهمية كبرى على شتى المذاهب التي مزقت المسيحية، فكلها خير إذا حسنت السلوك وغذت الرجاء. ومن السخف أن نفترض أن أصحاب العقائد والآلهة والأسفار المقدسة الأخرى سوف يحكم عليها بالهلاك، "فلو لم يكن على الأرض سوى دين واحد؛ ولو حكم على كل الخارجين عنه بالعقاب الأبدي .. لكان إله ذلك الدين أظلم الطغاة وأقساهم (٧٦). وعليه فلت يعلم إميل لوناً بعينه من المسيحية، ولكنا سنعطيه الوسيلة لأن يختار لنفسه حسبما يرتئيه عقله صواباً (٧٧). وخير الطرق أن نمضي في الدين الذي ورثناه عن آبائنا أو مجتمعنا. ونصيحة كاهن روسو الوهمي هي "عد إلى وطنك؛ ارجع إلى دين آبائك، واتبعه بكل قلبك ولا تتخل عنه أبداً فهو بسيط جداً ومقدس جداً، وما من دين آخر تجد فيه الفضيلة أشد نقاء، ولا العقيدة أكثر إشباعاً للعقل (٧٨)".
وكان روسو عام ١٧٥٤ قد سبق إلى هذه النصيحة، وعاد إلى جنيف وعقيدتها، على أنه لم يق بوعد الذهاب إليها والإقامة فيها بعد أن يسوي أموره في فرنسا. وفي "رسائل من الجيل" التي كتبها بعد عشر سنوات تنكر لمعظم دين آبائه كما سنرى. وفي العقد الأخير من حياته سنجده يوصي غيره بالدين، ولكنه لا يكاد يبدي أمارة على الإيمان الديني أو الممارسة الدينية في حياته اليومية. وأجمع الكاثوليك والكلفنيون واليسوعيون على مهاجمته هو "وإعلان الإيمان" الذي ناب عن عقيدته لأنهما أساساً غير مسيحيين (٧٩). وصدم التعليم الذي اقترحه لإميل قراءه المسيحيين لأنهم رأوه في حقيقته تعليماً لا دينياً، وخامرهم الظن في أن فتى من أواسط الشباب، نشئ على غير دين، لن يعتنق ديناً بعد حين، إلا لداعي المصلحة الاجتماعية. وقد رفض روسو عقيدة الخطيئة الأصلية والدور الفدائي الذي يؤديه موت المسيح وذلك برغم قبوله الرسمي للكلفنية. وأبى قبول العهد القديم بوصفه كلمة الله، وذهب إلى أن العهد الجديد "يحفل بأشياء لا يمكن تصديقها، أشياء ينفر منها العقل (٨٠) ". ولكنه أحب الأناجيل لأنها أعظم الأسفار تأثيراً وإلهاماً للنفس.