وقاوستينا بوردوني، معاركهما المشجية في سبيل التفوق، وكانت كل منهما تهز العالم من خشبة المسرح. فأما كوتزوني فكانت تغني أمام فارينللي في مسرح، وأما بوردوني فأمام برناكي في مسرح آخر، وانقسمت البندقية بأسرها بين المعجبين بهؤلاء المغنين. ول قد غنى أربعتهم معاً لذابت ملكة الأدرياتيكي طرباً في بحيراتها.
ومقابل قلاع الأوبرا والبهجة هذه قامت الملاجئ الأربعة Ospedali التي رعت فيها البندقية بعض فتياتها اليتيمات أو غير الشرعيات. ورغبة في شغل هؤلاء الأطفال المشردات وإضفاء المغزى على حياتهن كن يدربن على الموسيقى الصوتية والآلية، وعلى الغناء في فرق الإرشاد، وإحياء الحفلات الموسيقية العامة من خلف حواجز ذات قضبان كحواجز الأديرة. وقد قال روسو أنه لم يسمع في حياته شيئاً أثر فيه كأصواتهن الرقيقة وهن يغنين في إيقاع مدرب (٤١)، وذكر جوته أنه لم يسمع قط سوبرانو بهذا الإتقان، أو موسيقى "لها هذا الجمال الذي لا يوصف (٤٢) ". وكان يعلم في هذه المعاهد نفر من أعظم الملحنين الإيطاليين ويؤلفون لها الموسيقى، ويفودون حفلاتها، أمثال مونتيفردي، وكافاللي، ولوتي، وجالوبي، ويوريورا، وفيفالدي …
واتجهت البندقية إلى مدن إيطاليا، وأحياناً النمسا وألمانيا، لتزود مسارحها بالأوبرات وتمد ملاجئها وأوركستراتها وعازفيها المهرة بالموسيقى الصوتية والآلية. وكانت هي ذاتها الأم أو الحاضنة لانطونيو لوتي، عازف الأرغن ثم رئيس فرقة المرتلين في كنيسة القديس مرقص، ومؤلف أوبرات غير ذات بال، ولكنه أيضاً ملحن قداس ذرفت له عينا بيرني البرتستانتي، ولبلدا ساري جالوبي الذي اشتهر بأوبراته الهازلة وببهاء الحانه الأوبرالية ورقتها، ولألساندور مارتشيللو الذي تتبوأ كونشرتاته مقاماً عالياً في مؤلفات عصره الموسيقية، وأخيه الأصغر بنديتو الذي قيل عن تلحينه لخمسين مزموراً أنه "من أبدع المؤلفات الموسيقية قاطبة (٤٣) ولانطونيو فيفالدي".