للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أما جوفاني باتستا بياتسيتا فكان فناناً أعظم يسمو فوق العواطف الهشة ويحتقر الزخرف ولا يسعى وراء إرضاء الجمهور بقدر سعيه إلى تذليل صعاب صناعته والتمسك بأرفع تقاليدها. وتبين زملاءه الفنانون هذه النزعة فيه، ومع أن تيبولو كان له فضل السبق في تأسيس أكاديمية البندقية للتصوير والنحت (١٧٥٠)، فإن بياتسيتا هو الذي اختاروه أول رئيس لها. ولوحته المسماة "رفقة عند البئر" (٥٣) جديرة بتتسيانو، وهي أقل حتى من تتيسيانو اكتراثاً بمفاهيم الجمال المتعارف عليها. واللوحة تكشف من جسد رفقة قدراً يكفي لإثارة غريزة المتوحش، ولكن وجهها الهولندي وأنفها الأفطس لم يصورا لينتشي بهما الإيطاليون. فالذي يثير عواطفنا هنا هو الرجل، إنه شخصية بفن النهضة: وجه قوي، ولحية ملمعة وقبعة ذات ريش وومضة إغراء ماكر في عينيه. واللوحة كلها آية من آيات اللون والنسيج والتصميم، وقد تميز بياتسيتا بأنه كان أكثر المصورين البنادقة احتراماً في جيله، وأنه مات أفقرهم جميعاً.

وأشهر منه أنطونيو كانالي، الملقب كاناليتو، لأن نصف العالم يعرف البندقية بفضل مناظره Vedute. أما إنجلترا فعرفته دماً ولحماً. وقد نهج حيناً نهج أبيه الذي امتهن رسم المناظر للمسارح، ثم درس العمارة في روما، فلما عاد إلى البندقية طبق الفرجار والزاوية على رسمه، وجعل العمارة ملمحاً من ملامح صوره. وفي هذه الصور عرفنا ملكة الأدرياتك كما كانت تبدو في النصف الأول من القرن الثامن عشر. ونلحظ من لوحة باتشينودي سان ماركو Baccino بحرية القديس مرقص (٥٤) مبلغ ازدحام البحيرة الكبرى بالمراكب، ونبصر سباق الزوارق Regatta على القناة الكبرى (٥٥) ونرى أن الحياة كانت زاخرة مشوبة شأنها من قبل دائماً، ويبهجنا أن نجد "جسر الريالتو" (٥٦) وميدان القديس مرقص (٥٧) والميدان الصغير (٥٨) وقصر الأدواج (٥٩) وكنيسة سانتا ماريا ديللا سالوتا (٦٠) كما نجدها اليوم تقريباً، إذا استثنينا البرج الذي أعيد بناؤه. وصور كهذه هي التي احتاج إليها السياح في الشمال الملبد بالغيوم ليذكروا في عرفان شمس البندقية الشديدة