قمة بركان لا يخمد سعيره، من وحشية بدائية وخرافة وجهل مكبوت، إن المدنية العصرية ليست سوى غطاء وضع وضعاً على قمة العصور الوسطى، ولا تزال تلك العصور ولن تزال باقية.
ولا يسع الفيلسوف إلا أن يَقبَل راضياً هذا الفقر من الإنسان إلى معونة مما فوق الطبيعة تبعثفي نفسه الطمأنينة؛ ويجد لنفسه العزاء في علمه بأن الأدب المسرحي والعلوم تنشأ عن السحر، كما ينشأ الشعر عن مذهب الروحانية؛ فقد بين لنا "فريزر" Frazer- في شيء من المبالغة لا نستغربه من مبدع موهوب- أن أمجاد العلم تمتد بجذورها إلى سخافات السحر؛ لأنه كلما أخفق الساحر في سحره استفاد من إخفاقه هذا استكشافاً لقانون من قوانين الطبيعة، يستعين بفعله على مساعدة القوى الطبيعية في إحداث ما يريد أن يحدثه من ظواهر؛ ثم أخذت الوسائل الطبيعية تسود وترجح كفتها شيئاً فشيئاً، ولو أن الساحر كان دائماً يخفي هذه الوسائل الطبيعية ليحتفظ بمكانته عند الناس، ما استطاع إلى إخفائها من سبيل، بأن يعزو الظاهرة التي أحدثها للسحر الذي استمده من القوى الخارقة للطبيعة- وهذا شبيه جداً بأهل هذا العصر حين يعزون الشفاء الطبيعي لوَصفَات وعقاقير سحرية؛ وعلى هذا النحو كان السحر هو الذي أنشأ لنا الطبيب والصيدلي، وعالم المعادن، وعالم الفلك.
لكن الطريق أقصر بين الفلكي والساحر منها في سائر ضروب العلماء؛ ذلك لأنه لما تعددت طقوس الدين وتعقدت، لم يَعد الرجل العادي يقدر على استيعابها جميعاً، والإلمام بها جميعاً ومن هنا نشأت طبقة خاصة أنفقت معظم وقتها في مهام الدين ومحافله؛ وأصبح الكاهن باعتباره ساحراً، بما له من قدرة على الذهول الروحي وتلقي الوحي وتوجيه الدعاء المستجاب، أقر بصلة بإرادة الأرواح أو الآلهة بحيث يستطيع تحويل تلك الإرادة إلى ما فيه نفع الإنسان؛ ولما كان هذا الضرب من العلم والمهارة هو في رأي البدائيين أهم ضروب العلم والمهارة جميعاً،