والآن وقد بات جويا أرملاً، أصم، مكرهاً على الصمت، فقد انكفأ إلى فنه وهو ما يزال "مصور الحجرة الملكية" ذا المعاش المقرر، ولكنه لم يعد أثيراً لدى البلاط. ولعل أقوى محفوراته قد حفرها في ١٨١٢. وهي "العملاق"(١٢٥) - وتثمل هرقول بوجه كاليبان، جالساً على حافة الكرة الأرضية، كأنه مارس يستريح بعد حرب ظافرة. وكان طوال الفترة من ١٨١٠ يرسم رسوماً تخطيطية صغيرة ثم يحفرها ويطبعها، وقد سماها "العقابيل القتالة لحرب أسبانيا الدموية مع بونابرت، وغيرها من النزوات". ولم يجرؤ على نشر هذه الرسوم الخمسة الثمانين ولكن أوصى بها لولده، الذي باعها أبنه لأكاديمية سان فرناندو، والتي نشرتها عام ١٨٦٣ بعنوان "توارث الحرب".
وهذه الرسوم التخطيطية ليست مشاهد عادية للمعارك يستخفي القتال فيها في ثوب البطولة والمجد. إنما هي لحظات من الرعب والقسوة تنسى خلالها ضوابط الحضارة الهزلية في حميا الصراع ونشوة الدماء. هنا بيوت تحترق وتنهار على ساكنيها، ونسوة يهرعن إلى المعركة بحجارة أو رماح أو بنادق، هنا نساء تهتك أعراضهن، ورجال يشدون إلى أعمدة أما فرق ضرب النار، ورجال طاحت سيقانهم أو أذرعهم أو رؤوسهم, وجندي يحب الأعضاء التناسلية لرجل (١٢٦) وجثث تخوزق فوق جذوع أو أطراف الشر الحادة، ونساء ميتات مازلن قابضات على أطفالهن الرضع، وأطفال يرقبون في هلع قتال آبائهم، وأكداس من الموتى يقذف بهم في الحفر، والنسور تستمتع بالتهام الموتى من الآدميين. وتحت هذه الصور أضاف جويا تعليقات ساخرة. "هذا ما ولدت له"(١٢٧)، "هذا رأيته"(١٢٨)، "لقد حدث هكذا"(١٢٩)، "ليدفنوا الموتى ويلزموا الصمت"(١٣٠). وفي النهاية أعرب جويا عن يأسه وأمله. فالصورة رقم ٧٩ تمثل امرأة تموت بين الحفارين والكهنة، وعنوانها "الحق يموت"، ولكن الصورة رقم ٨٠ تظهرها وهي تشع ضياء، وتسأل "أتبعث حية مرة أخرى؟ ".