وفي ١٧٦٠ أعيا من هذه الجهود المضنية فشد رحاله إلى موسكو، ولكن ميله للشجار ما لبث أن أورثه الفقر هناك. فناشد كاترين الثانية أن تبعث به إلى الخارج على نفقة الدولة، وأمد لها أنه "لو وصف أوربا قلم كقلمي، لما كفاه ٣٠٠. ٠٠٠ روبل"(٢٤) واحتملته كاترين في صبر حتى مات صريع الشراب (١٧٧٧).
ولنبعث الآن شيئاً من الإشراق في هذه الصفحات بقصة غرام بطلتها أميرة اسمها ناتاليا بوريسوفنا دولجوروكايا، وكانت ابنة الكونت والمشير بوريس خريميتيف، رفيق سلاح بطرس الأكبر. ففي ربيعها الخامس عشر (١٧٢٩) يوم كانت "باهرة الجمال ومن كار الوارثات في روسيا"(٢٥) خطبت لفاسيلي لوكيش دولجوروكي، أقرب المقربين للقيصر بطرس الثاني. وقبل أن يتاح عقد القران مات بطرس، فنفى خلفه فاسيل إلى سيبريا، وأصرت ناتاليا على أن تتزوجه وتتبعه إلى المنفى. وعاشت معه ثمانية أعوام في تبولسك، وولدت له طفلين. وفي عام ١٧٣٩ أعدم، وبعد أن قضت في المنفى ثلاثة أعوام أخرى سمح لها بالعودة إلى روسيا الأوربية فأكملت تعليم أبنائها، ثم دخلت ديراً في كييف. هناك، واستجابة لرجاء ولدها ميخائيل، كتبت "مذكراتها"(١٧٦٨) التي نشرها حفيدها الشاعر الأمير إيفان ميخايلوفيتش دولجوروكي في ١٨١٠. وقد أحيا ذكراها ثلاثة عراء روس، وهي محل إجلال روسيا باعتبارها نموذجاً للكثيرات من النساء الروسيات اللاتي شرفن الثورة ببطولتهن ووفائهن.
والخلاصة أن الحضارة الروسية في جملتها كانت مزيجاً من الانضباط الحتمي والاستغلال القاسي، ومن التدين والعنف، ومن الصلاة والتجديف، ومن الموسيقى والتبذل، ومن الوفاء والقسوة، ومن الخضوع الذليل والبسالة التي لا تقهر. ولم يستطيع القوم أن يكتسبوا فضائل السلم لأنه كان لزاماً عليهم أن يخوضوا، خلال فصول شتاء مديدة، وليالي قارسة البرد طويلة، حرباً مريرة مع الرياح القطبية التي تكتسح سهولهم المتجمدة دون ما حاجز يعوقها. إنهم لم يعرفوا قط النهضة الأوربية ولا الإصلاح