بوصفه "معلماً خاصاً" لا يكافأ إلا بالرسوم التي يقرر الطلبة دفعها. وظل خمسة عشر عاماً في هذا الوضع القلق. وخلال هذه البداية الطويلة الأمد رفضت طلباته لوظيفة الأستاذية مرتين. وظل فقيراً، يتنقل من نزل إلى نزل، ولا يجرؤ على الزواج، ولا يسكن بيتاً خاصاً به حتى بلغ التاسعة والخمسين (٦). وقد حاضر في مواضيع كثيرة التباين، ربما ليجتذب عدداً أكبر من الطلاب، وكان عليه أن يحاضر بلغة واضحة ليتيسر له العيش. ولا بد أن كانت المعلم كان يختلف تماماً عن كانت المؤلف الذي اشتهر بغموضه. وقد وصفه هردر، الذي كان أحد تلاميذه (١٧٦٢ - ٦٤) بعد ثلاثين عاماً، محتفظاً له بذكرى ملؤها العرفان بالجميل، فقال:
"أسعدني الحظ بمعرفة فيلسوف كان معلمي. ففي مقتبل عمره تحلى بشجاعة الشباب المرحة، وأعتقد أن هذه الشجاعة لازمته حتى الشيخوخة. وكان جبينه الواضح المفكر مستقراً للبشر والسرور الذي لا يكدر صفوه مكدر، وكان حديثه حافلاً بالأفكار شديد الإيحاء؛ وفي متناوله الضحك والدعابة الذكية والخيال الفكه؛ ومحاضراته تجمع بين التعليم والترفيه الكثير. وبالروح ذاتها التي انتقد بها ليبنتس وفولف وباومجارتن … وهيوم، بحث في القوانين الطبيعية التي قال بها نيوتن وكبلر والفيزيائيون. وبهذا الأسلوب تناول كتابات روسو … ولم يكن لأي عصبة أو ملة، ولا تحيز أو إجلال لاسم من الأسماء، أدنى تأثير عليه مقابل نشر الحقيقة ودعمها. وكان يشجع سامعيه على التفكير لأنفسهم ويضطرهم في رفق إلى هذا التفكير؛ أما الاستبداد فكان غريباً على طبعه. وهذا الرجل الذي أذكر اسمه بأعظم عرفان وتبجيل هو إيمانويل كانت، وصورته مماثلة أمامي، وهي محببة إلى نفسي"(٧).
ولو أردنا أن نتذكر كانت على الأخص من واقع عمله قبل أن يبلغ السابعة والخمسين (١٧٨١) لوجب أن نرى فيه العالم أكثر من الفيلسوف-رغم أن هذين المصطلحين لم يكونا بعد منفصلين. وأول أعماله المنشورة "خواطر من التقييم الحقيقي للقوى الديناميكية، ١٧٤٧" نقاش علمي عن قوة الجسم أثناء حركته وهل تقاس (كما زعم ديكارت وأويلر) بالكتلة