مخافة أن يتضخم كتابه؛ "فهذه ليست ضرورية إلا من وجهة النظر الشعبية، وهذا الكتاب لا يمكن أبداً جعله صالحاً للاستهلاك الشعبي"(١٥). وهكذا كتب كانت لأهل حرفته، وركن إلى غيره في تبسيطه وتخفيفه ليصلح للهضم. ومع أن كرستيان فون فولف كان قد سبقه في التأليف الفلسفي بالألمانية، إلا أن تلك اللغة لا تزال على جفافها في التعبير عن ظلال التفكير، ولم تكن قد استقرت على مصطلحات فنية في الفلسفة. وكان على كانت في كل خطوة تقريباً أن يخترع ترجمة ألمانية لمصطلح لاتيني، وفي كثير من الحالات حتى اللاتينية كانت تفتقر إلى مصطلحات تفي بالفوارق الدقيقة التي أراد التعبير عنها. وقد أربك قراءه بخلعه المعاني الجديدة على الألفاظ القديمة، وبنسيانه أحياناً تعاريفه الجديدة. والصفحات المائة الأولى واضحة وضوحاً لا بأس به، أما باقي الكتاب فحريق فلسفي لا يبصر فيه القارئ غير الخبير شيئاً من الدخان.
وقد احتاج العنوان نفسه إلى إيضاح. فأنى للقارئ أن يعرف أن "نقد العقل الخالص" معناه تمحيص نقدي حصيف للعقل مستقلاً عن التجربة، و "النقد لم يعن التحليل والعرض فحسب، بل الحكم أيضاً، كما يستفاد من سلف اللفظة اليوناني (بمعنى يحكم). وقد قصد كانت أن يصف الحس، والإدراك الحسي والفكرة والعقل، وأن يقرر لكل منها حدودها واختصاصاتها الصحيحة. ثم أمل أن يبين أن في استطاعة العقل أن يعطييا المعرفة مستقلاً عن أي خبرة مؤيدة، كما هي الحال في معرفتنا أن ستة مضروبة في ستة تساوي ستة وثلاثين، أو أنه لا بد أن يكون للمعلول علة. تلك أمثلة لـ "العقل الخالص"-أعني المعرفة القبلية أو الأولية، أي المعرفة التي لا تتطلب برهاناً من التجربة. يقول: "إن ملكة المعرفة الحاصلة من المبادئ القبلية يمكن أن نسميها العقل الخالص، والبحث العام في قدرتها وحدودها (يؤلف) نقد العقل الخالص" (١٦). وقد اعتقد كانت بأن بحثاً كهذا سينطوي على مشكلات الميتافيزيقا؛ وكان على ثقة من أنه "ما من مشكلة ميتافيزيقية واحدة لم تحل، أو لم يقدم