يعجز عن فهم عدالتهم، ولا يستطيع إثباتها بطرق التفكير الخاصة بالفلسفة" (٥٨).
ثم عاد إلى المشكلة في سلسلة من المقالات أفضت به إلى تحدي الحكومة البروسية تحدياً سافراً. وطبعت أولى هذه المقالات وعنوانها "في الشر المتأصل" في "مجلة برلين الشهرية" عدد أبريل ١٧٩٢. وأذن الرقيب بنشرها على أساس أن "العلماء المتعمقين في التفكير هم وحدهم الذين يقرءون كتابات كانت" (٥٩). ولكنه رفض نشر المقال الثاني "في الصراع بين مبادئ الخير والشر للسيطرة على الإنسان". ولجأ كانت إلى حيلة. ذلك أن الجامعات الألمانية كان لها امتياز اعتماد الكتب والمقالات للنشر؛ فقدم كانت المقال الثاني والثالث والرابع إلى كلية الفلسفة بجامعة يينا (وكان يشرف عليها آنئذ جوته وكارل أوجست دوق فايمار، وكان شيلر أحد أساتذتها)، وأذنت الكلية بالنشر، وبهذا طبعت المقالات الأربع كلها في كونجزبرج عام ١٧٩٣ بعنوان "الدين في حدود العقل وحده".
والسطور الأولى تعلن الفكرة الرئيسية السائدة فيها: "بقدر ما تبنى الأخلاق على مفهوم الإنسان كفاعل حر، هذا الإنسان الذي-بسبب حريته هذه-يتعامى بعقله عن رؤية القوانين غير المشروطة، فإن هذه الأخلاق في غير حاجة إلى فكرة كائن آخر من فوقه ليجعله يدرك واجبه، ولا إلى حافز غير القانون ذاته يجعله يؤديه … ومن هنا فإن الأخلاق من أجل ذاتها هي لا تحتاج إلى دين على الإطلاق" (٦٠). ويعد كانت بطاعة السلطات، ويسلم الحاجة به إلى الرقابة، ولكنه يشدد على "ألا تسبب الرقابة أي اضطراب في مجال العلوم" (٦١) فغزو اللاهوت للعلم، كما حدث في حالة جاليليو، "قد يعطل جميع جهود العقل البشري … ويجب أن يتمتع اللاهوت الفلسفي بكامل الحرية على قدر ما يمتد إليه علمه" (٦٢).
ويستنبط كانت مشكلات الأخلاق من وراثة الإنسان لنوازع الخير والشر. "لا حاجة لإقامة الدليل صورياً على أن نزعة الفساد لا بد متأصلة في الإنسان وذلك لكثرة الأمثلة الصارخة التي تضعها الخبرة أمام