الأخلاقية لا غنى عنها، وينبغي أن تبدأ في مرحلة مبكرة. وإذ كانت الطبيعة البشرية تحتوي بذرة الخير والشر كليهما، فإن كل تقدم أخلاقي رهن باقتلاع الشر وغرس الخير، ولا يكون هذا بالثواب والعقاب، بل بالتشديد على مفهوم الواجب".
والتعليم الذي تقوم به الدولة ليس أفضل من التعليم الذي تقوم به الكنيسة، فالدولة ستسعى إلى تكوين المواطنين المطيعين اللينين المتعصبين لوطنهم. والأفضل ترك التعليم للمدارس الخاصة التي يرأسها معلمون مستنيرون ومواطنون مشربون بروح الخدمة العامة (٨٨). لذلك أشاد كانت بمبادئ ومدارس يوهاك بازروف. وأسف على ما تتسم به مدارس الدولة وكتبها المدرسية من تحيز للقومية، وتطلع إلى زمن تعالج فيه جميع الموضوعات بحيدة ونزاهة. وفي ١٧٨٤ نشر مقالاً بعنوان "أفكار لتاريخ عام من وجهة نظر عالمية"؛ وقد أجمل المقال لتقدم البشرية من الخرافة إلى التنوير، ولم يفسح للدين إلا دوراً صغيراً، وطالب بمؤرخين يرتفعون فوق التعصب القومي.
وقد أدفأ فؤاده بالإيمان بالتقدم، الأخلاقي منه والفكري، كما أدفأ جماعة الفلاسفة أفئدتهم. ففي ١٧٩٣ وبخ موسى مندلسون على قوله أن كل تقدم يلغيه تقهقر. "في الإمكان الاستشهاد بأدلة كثيرة على أن النوع الإنساني بوجه عام، لا سيما في زماننا بالقياس إلى الأزمنة السابقة كلها، قد سار خطوات لا يستهان بها نحو حياة أفضل من الناحية الأخلاقية. ولا ينقض هذا القول حالات التوقف المؤقتة. وصراخ القائلين بأن النوع الإنساني ينحط باستمرار منشؤه بالضبط أن المرء حين يقف على درجة أعلى من الأخلاقية يمتد بصره إلى مدى أبعد أمامه فيكون حكمه على حالة الناس كما هم، بالقياس إلى ما ينبغي أن يكونوا، حكماً أشد صرامة" (٨٩).
فلما بدأ كانت آخر عقد في عمره (١٧٩٤) أصاب تفاؤله المبكر شيء من الإظلام، ربما سبب الرجعية في بروسيا وتحالف الدول على فرنسا الثائرة. فانطوى على نفسه، وكتب سراً ذلك الأثر الذي نشر بعد وفاته، والذي قدر له أن يكون وصيته الأخيرة للنوع الإنساني.