أن يتضور الفئات جوعاً لكي يزهو فرد واحد ويتقلب في النعيم؛ أن عشرات الألوف يظلمون ويساقون إلى الموت لكي يستطيع أحمق أو عاقل متوج واحد أن يحقق حلمه" (٢٥).
وفي الجزء الثالث امتدح هردر أثينا على ديمقراطيتها النسبية التي أتاحت للحضارة أن تنتشر في كثير من طبقات السكان. أما روما التي أقامت ثراءها على الفتح والرق فقد طورت حضارة ضيقة خلفت الشعب في الفقر والجهل. في هذا التاريخ كله لم ير هردر أي "عناية إلهية"، فهو أشر من أن يكون من عند الله. فالله، الواحد مع الطبيعة، يدع الأمور تجري في أعنتها وفق القانون الطبيعي وغباوة البشر. ومع ذلك فبحكم صراع البقاء ذاته ينبعث بعض التقدم من الفوضى؛ فيطور العون المتبادل، والنظام الاجتماعي، والأخلاق، والقانون، كوسائل للبقاء، ويتحرك الإنسان في بطء صوب إنسانية رحيمة. لا لأن هناك خطاً متصلاً للتقدم، فهذا غير ممكن، لأن كل حضارة قومية هي كيان فريد، له طابعه المتأصل، ولغته، ودينه، وناموسه الخلقي، وأدبه وفنه، وكل حضارة-شأنها شأن أي كائن حي-إذا استثنينا ما يطرأ عليها من حوادث عارضة-تنحو للنمو إلى نهايتها القصوى الطبيعية، التي تضمحل بعدها وتموت. وليس هناك ضمان لتفوق الحضارات اللاحقة على السابقة، ولكن إسهامات كل حضارة تنقل على نحو أفضل إلى الحضارة التي تخلفها، وهكذا ينمو التراث الإنساني.
والجزء الرابع يمتدح المسيحية أما للمدنية الغربية. فالبابوية الوسيطة حققت هدفاً نافعاً يكبحها استبدادية الحكام والنزعة الفردية للدول؛ والفلاسفة المدرسيون، وأن نسجوا نسيجاً واهياً أجوف بألفاظ ثقيلة، إلا أنهم أرهفوا أدوات العقل ولغته، وجامعات العصر الوسيط جمعت وحفظت ونقلت الكثير من ثقافة اليونان والرومان، بل بعض علوم العرب والفرس وفلسفتهم. وهكذا أصبح المجتمع الفكري أكبر عدداً وأرهف حساً من أن يقوى عليه سدنة السلطة، وتحطمت أغلال العرف، وأعلن العقل الحديث تحرره.