"لقد تحررت إلى الأبد-ولله الحمد-من كل ميل إلى تلك الأعمدة الشبيهة بقصبات التدخين، وقلاعنا الصغيرة المتوجة بأبراج الكنائس، والأطراف المورقة لمبانينا! … لقد فسح بلاديو أمامي الطريق لكل … فن"(٦١). وعاد بهذا الطريق إلى فتروفيوس الذي درسه في طبعه أشرف عليها جالياني، صاحبنا الظريف القادم من نابلي وباريس. واستحال الطراز الكلاسيكي الآن غراماً عنده، يلون كتاباته وفكره، ويعيد صياغة بعض أناجه القديم، مثل "افجيني" و "تاسو" في قالب وخط كلاسيكيين. وفي البندقية بدت قصور الباروك في عينيه مسرفة إلى البهرج. مفرطة في الأناقة النسائية؛ لا بل أنه انصرف عن واجهات النهضة إلى أطلال العمائر والتماثيل الكلاسيكية في المتاحف. ولكن دمه الحار تجاوب مع لون فيرونيزي وتتسيانو وكبريائهما.
وقد بحث في فرار عبثاً عن القصر الذي حبس فيه تاسو. وبعد أن قضى ثلاثة أيام في بولونيا وثلاث ساعات فقط في فلورنسة انطلق حثيثاً عبر بروجه وتيرني وتشيتا دي كاستيللو، وفي ٢٩ أكتوبر ١٧٨٦ ركب إلى روما مخترقاً "البورتا ديل بوبولو"(بوابة الشعب) وأحس الآن بلحظة عابرة من التواضع "كل الطرق مفتوحة أمامي لأني أسير بروح التواضع"(٦٢).
وإذ لم يكن قد تمكن من لغة الحديث الإيطالية، فقد بحث عن الجالية الألمانية، لا سيما الفنانين الألمان، لأنه تطلع إلى أن يتعلم على الأقل أصول الرسم والتصوير والنحت. وأعجبت أنجليكا كاوفمان بحماسته ووسامته فرسمته في صورة أبرزت شعر الأسود وجبينه العالي وعينيه الصافيتين. وارتبط بصداقة حميمة مع يوهان هاينريش فلهلم تيشباين، الذي أسلمه لنا في لوحته الشهيرة "جوته في الريف"(٦٣). يستلقي في استرخاء كأنه فتح أركاديا. وكان جوته قد راسل هذا المصور قبل حضوره إلى إيطاليا بزمن طويل، ثم التقيا لأول مرة في ٣ نوفمبر، حين اجتمعا في "بياتسا سان بيترو (ميدان القديس بطرس)، وتعرف الشاعر على الفنان، وقدم إليه نفسه ببساطة "أنا جوته" (٦٤)، ووصفه تيشباين في خطاب إلى لافاتر بهذه العبارات: