للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأعرب عن رأيه في فقرة تشم فيها نكهة فولتيرية. قال: "أن شتى أساليب العبادة السائدة في العالم الروماني كانت كلها في نظر الشعب سواء في الصدق وفي نظر الفيلسوف سواء في الكذب، وفي نظر الحاكم سواء في النفع. وهكذا أثمر التسامح انسجاماً دينياً" (٨٠)، وكان جبون يتجنب عادة أي تعبير مباشر بعدائه للمسيحية، فقد كانت لا تزال هناك قوانين في سجلات إنجلترا التشريعية تعد هذا التعبير جريمة خطيرة. مثال ذلك "إذا أنكر شخص نشئ على الديانة المسيحية، كتابة"، … صدق المسيحية، كان عقابه إذا عاد … السجن ثلاث سنوات دون قبول كفالة عنه" (٨١). ودرءاً لهذا العناء اتخذ الإلماع الخفي والتهكم الشفاف عنصرين من عناصر أسلوبه، ونوه في حرص إلى أنه لن يناقش مصادر المسيحية الأولية وفوق الطبيعة، بل سيكتفي بمناقشة العوامل الثانوية والطبيعية في أصل المسيحية ونموها. وأدرج في هذه العوامل الثانوية "أخلاقيات المسيحيين الطاهرة الصارمة" في القرن المسيحي الأول، ولكنه أضاف عاملاً آخر "غيرة المسيحيين لا مرونة فيها (ولا تسامح إن جاز لنا أن نستعمل هذا التعبير) " (٨٢) ومع أنه امتدح "وحدة الجمهورية المسيحية وانضباطها"، فإنه لاحظ أنها "شيئاً فشيئاً كونت دولة مستقلة متعاظمة في قلب الإمبراطورية الرومانية" (٨٣). وقد رد بوجه عام تقدم المسيحية في أول عهدها إلى العملية الطبيعية لا إلى المعجزة، ونقل الظاهرة من اللاهوت إلى التاريخ.

ولكن كيف أعانت المسيحية على اضمحلال روما؟ أولاً بإضعاف إيمان الشعب بالدين الرسمي، وبذلك قوضت أسا الدولة التي سندها ذلك الدين وقدسها. (وهذا بالطبع كان بالضبط حجة اللاهوتيين على جماعة الفلاسفة). وارتابت الحكومة الرومانية في المسيحيين بحجة أنهم يؤلفون جماعة سرية معادية للخدمة العسكرية، ويصرفون الناس عن الأعمال النافعة إلى التركيز على الخلاص السماوي. (فالرهبان في رأي جبون كانوا رجالاً متبطلين استسهلوا التسول والصلاة على العمل). أما الملل الأخرى فكان في الاستطاعة التسامح معها لأنها كانت متسامحة ولأنها لم تعرض وحدة الأمة للخطر، وكان المسيحيون هم الملة الجديدة الوحيدة التي نددت بسواها