لقد تاقت نفس جبون وهو ربيب التنوير إلى أن يكون فيلسوفاً، أو على الأقل أن يفلسف التاريخ. "أن العصر المستنير يطالب المؤرخ بمسحة من الفلسفة والنقد"(١٣٠). وكان يحب أن يقطع روايته بتعليقات فلسفية. ولكنه لم يزعم أنه يرد التاريخ إلى قوانين أو يصيغ "فلسفة التاريخ". على أنه اتخذ له موقفاً في بعض المسائل الأساسية: فقد قصر تأثير المناخ على العصور الأولى من المدنية، ورفض أن يكون العرق عاملاً حاسماً (١٣١)؛ وأقر، في حدود بتأثير الأفذاذ من الرجال. "أن أهم المشاهد في الحياة البشرية تتوقف على أخلاق ممثل فرد. فقد يحتد عرق في رجل واحد فيغير مصير أمم"(١٣٢). وحين كان في استطاعة قريش أن تغتال محمداً (صلى الله عليه وسلم)"كان من الجائز أن يغير رمح عربي تاريخ العالم"(١٣٣). ولو لم يهزم شارل مارتل المغاربة في تور (٧٣٢) لاكتسح المسلمون أوربا بأسرها، "ولكان تفسير القرآن يدرس الآن في مدارس أكسفورد، ولكان تلاميذه يفسرون لشعب من المختونين قدسية الوحي الذي نزل على النبي وصدقه"(١٣٤). على أنه لا بد للفرد الفذ من أن يرتكز على سند واسع إن أراد أن يحرز أقصى نفوذ على عصره. "أن النتائج التي يحققها الإقدام الشخصي ضئيلة جداً، إلا في الشعر أو الرومانس، بحيث يجب أن … يعتمد النصر على درجة المهارة التي ستعان بها لتجميع عواطف الجماهير المشبوبة وتوجيهها لخدمة رجل فرد"(١٣٥).
صفوة القول أن "اضمحلال الدولة الرومانية وسقوطها" يمكن على الجملة أن يعد الكتاب الأعظم للقرن الثامن عشر، وكتاب مونتسكيو "روح القوانين" أقرب منافس له. صحيح أنه لم يكن أكثر الكتب تأثيراً، ولم يكن في تأثيره على التأريخ تقريعاً لكتاب روسو "العقد الاجتماعي" أو لكتاب آدم سمث "ثروة الأمم"، أو لكتاب كانت "نقد العقل الخالص". ولكنا إذا نظرنا إليه بوصفه أثراً أدبياً وجدناه لا يبارى في جيله أو نوعه. فإذا سألنا كيف أتيح لجبون أن ينتج هذه الرائعة أدركنا أن السر كان في