للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الخافتة، وكان أنفه حسّاساً يجيد الشّم (كان شمّاماً) وكانت عيناه تخترقان ما هو ظاهر لتتغلغل للأعماق، وتستبعد ما هو عارض لتستجلي المعنى واضحاً لا شِيَةً فيه. وكان محباً للاستطلاع وجّه آلاف الأسئلة، وقرأ مئات الكتب ودرس الخرائط والتواريخ وزار المصانع والمزارع، واندهش لاكاس Las Cases لاتساع دائرة اهتماماته واتساع مجالات معرفته عن البلدان والقرون.

لقد كان يمتلك ذاكرة قوية أخضعها لطبيعة أغراضه فتخيّر لها ما يفيده. لقد كان يعلم ما يجب عليه نسيانه وما يجب عليه إبقاءه حياً في ذاكرته. لقد كان منظَّما؛ إذا كان يرتب رغباته بشكل موحّد وطبقي (نظامي) بشكل واضح ومباشر ليجعل أفكاره وسياساته وطريقة حكمه تسير في كُلٍ متكامل لتحقيق هذه الأغراض. لقد كان يطلب من مساعديه تقارير وتوصيات تتضمّن أهدافاً محدّدة ومعلومات حقيقية وإجراءات تنفيذية ونتائج محسوبة لا مجرد كتابات بليغة وأفكار مثالية تدعو للإعجاب. وكان يدرس هذه المادة التي تقدمها التقارير والتوصيات في ضوء خبرته وأهدافه ومن ثم يُصدر تعليمات قاطعة ودقيقة. ولا نعلم لحكومته نظيراً في التاريخ من حيث الإعداد الدقيق المنظم لمثل هذه الإدارة الدقيقة المنظمة. فمع نابليون أسلمت الحرية قيادها لدكتاتورية النظام.

وكان بتحويله مذكراته إلى توقعات ماهراً في حساب نتائج الاستجابات المحتملة، وفي التنبؤ بخطط أعدائه وتحركاتهم، فمن أقواله:

"إنني أقضي وقتاً طويلاً في التأمل والتفكير، فإذا كُنت نداً لموقف مستعداً لمواجهته إذا حل وقت المواجهة، فما هذا إلا لأنني قد فكرت في الأمر كثيراً قبل حدوثه … لقد كنتُ أُعد لكل احتمال عُدّته واضعاً في الاعتبار كل ما يمكن أن يحدث. لم يكن الجنّي [djinn] هو الذي يُلهمني فجأة بما يجب عليّ فِعله أو قوله .. وإنما هو تفكيري"

ومن ثم فقد وجدناه يستعد - واضعاً في اعتباره التفاصيل - لمعركة مارينجو Marengo وأوسترليتز Austerlitz وتنبّأ لا بالنتائج فحسب وإنما بالوقت الذي ستستغرقه كل معركة منهما. وفي قمة ازدهاره (١٨٠٧) كان قادراً على الاحتفاظ برؤيته واضحة لا تشوِّش عليها رغباته. لقد حاول أن يدرس الصعوبات المتوقعة والمفاجآت التي يمكن حدوثها، وما قد يقوم به أعداؤه من مجازفات، وذلك ليستعد لمواجهتها:

"عندما أُخطط لمعركة فلا يمكن أن يكون هناك من هو أكثر جُبناً مني. إنني أُضخّم أمام عيني كل