الإقطاع ومحاكم التفتيش وسيطرة رجال الدين على مناحي الحياة، وأدخل لهذه البلاد مواد مدونته القانونية وشيئاً من التنوير، لكنه أيضاً ربط هذه الدول المفتوحة به فعين عليها ملوكا.
أكان حقاً - رغم إرادته - كورسيكا؟ هذا غير صحيح إلاّ فيما يتعلق بولائه لأسرته، وميله للقتال، وعاطفته الجياشة في الدفاع عن فرنسا ضد أعدائها، لكنه لم يكن كورسيكا إذا نظرنا لعدم ميله للإقطاع كما أن قراءاته للمفكرين الفرنسيين أبعدته عن كاثوليكية العصور الوسطى التي كان عليها أهل جزيرته (كورسيكا). لقد كان كورسيكي الدم، فرنسي التعليم، إيطالياً في كل شيء خلال ذلك.
نعم فبعد كل محاولاتنا للإجابة عن هذه الأسئلة يجب أن نرجع إلى ما قاله ستندهال Stendhal وتين Taine من أن نابليون كان كأحد قادة الجنود المرتزقة في إيطاليا في عصر النهضة، وساعد على بقائه محتفظاَ بهذه الخاصية، انعزال كورسيكا وحروبها ونظامها الإقطاعي. لقد كان هو كسيزاري بورجيا Cesare Borgia لكنه ضِعْفه عقلاً، وكان كمكيافيللي لكن حذره بمقدار النصف، وإرادته تزيد على ما أوصى به مكيافيللي مئة مرة. لقد كان إيطالياً لكن فولتير جعله شكّاكاً، كما جعلته الثورة الفرنسية التي شهد وقائعها حاذق الذهن محتالاً، وأصبح لمّاحاً حاد الذهن بدخوله في مناقشات يومية مع المفكرين الفرنسيين اللامعين.
لقد ظهرت فيه كل صفات إيطاليا في عصر النهضة: الفنان والمقاتل والفيلسوف والقائد وحدتهم جميعا - في شخصه - مواهبه وأهدافه وفكره المتغلغل الثاقب اللمّاح، واتجاهه المباشر للانجاز والهيمنة، لكنه لم يكن قادراً علي التوقف. وباستثناء هذا الخطأ الحيوي، فقد كان هو أبرع من شهده التاريخ تحكماً في الأمور المعقدة وأبرع من شهده التاريخ تنسيقاً للطاقة البشرية. لقد أحسن توكويفيل Tocqueville عندما قال: لقد كان كأفضل ما يكون الرجال لكن دون فضيلة، وكأحكم ما يكون الرجال لكن دون تواضع. ومع هذا فقد كان نابليون في نطاق ما هو معقول محتمل عندما توقّع أن العالم قد لا يشهد نظيراً له لقرون كثيرة قادمة.