وإذا خلت الساحة إلا من كيانات الأفراد فماذا بقي للدولة (ككيان) والكنيسة والجيش والجامعة؟ لن يبقى إذن سوى مؤامرات أفراد يتمتعون بمزايا خاصة للإرهاب والهمجية، ولتشكيل الأمور وفسخها، ولفرض الضرائب وتسيير أمور الحكم، وليسوقوا الباقين إلى المذابح؟ وقلما تستطيع عبقرية أن تحقق إنجازاً في ظل هذه القيود، ثم أليست عبقرية واحدة عدل عدد كبير من المعلمين والجنرالات والباباوات والملوك أو مئات التيجان؟
وعلى أية حال فقد كان هناك إلى جانب هذا الاتجاه الجديد الداعي إلى التحرر من كل شيء، كثير من الأرواح الحساسة التي شعرت أن العقل قد انتزع الكثير في طريقه إلى التحرر. فالعقل هو الذي هاجم الدين القديم بما فيه من حكايات القديسين وطقوس عطرة، وموسيقى محركة للمشاعر، ومريم العذراء الشفيعة والمسيح المخلص (بتشديد اللام وكسرها). وكان العقل هو الذي أحل محلّ هذه الرؤى السامية عمليات مادية كئيبة تتحرك بلا هدف نحو الدمار، وكان العقل هو الذي أحل محل صورة امرأة ورجل يعيشان في تواصل يومي مع المعبود، صورة رجل وامرأة مجسدين يقتربان كل يوم أكثر فأكثر بشكل تلقائي (أوتوماتيكي) على نحو مؤلم منحط، حتى يأتي موت لا قيامة بعده (موت أبدي). إن للخيال حقه حتى ولو لم يكن متسقا مع القياس المنطقي، وإننا لأكثر استعداداً للتفكير في أنفسنا كأرواح تتحكم في المادة أكثر من استعدادنا للتفكير في أنفسنا كآلات تتحكم في الأرواح. وللمشاعر حقها، وهي تترك آثارا أعمق من الفكر والعقل. فالمتجول البائس وجان جاك المندهش قد يشعر بالحكمة ويحس بها أكثر من العفريت المؤذي (الولد الشقي) في فكر فرني Ferney thought ..
لقد كانت ألمانيا قد عرفت روسو وفولتير وسمعت عنهما لكنها اختارت روسو. لقد قرأت - وأحست - بكتابيه أميل Emile وهلويز Heloise، وفضلتهما على (القاموس الفلسفي Philosophical Dictionary) و (كانديد Candide) وقد تبعت ألمانيا ليسنج في تفضيله رومانسيات شكسبير على كلاسيكيات راسين Racine. لقد كانت ألمانيا أكثر استعداداً لتقبل (كلاريسا هارلو Clarissa Harlowe) و (تريسترام شاندى Tristram Shandy)