قد نظم بجيشه الإمبراطوري ورُسُله إمبراطوريةً من خير ما شهد تاريخ الحكومات في حسن الإدارة.
وثالث عناصر المدنية هو الأخلاق- العادات وآداب السلوك، والضمير والإحسان؛ فالأخلاق قانون ينشأ في باطن النفس، ويولِّد فيها آخر الأمر تمييزاً بين الصواب والخطأ، وينظم ما يجيش في الإنسان من شهوات فيخضعها للطريق السوي؛ وبغير ذلك القانون تنحل الجماعة أفراداً وتسقط فريسة لدولة أخرى يكون فيها التماسك الاجتماعي؛ ومن القصور الملكية القديمة في مصر وما بين النهرين وفارس، عرف العالم آداب المعاملة الرقيقة؛ بل إن الشرق الأقصى ليمكنه اليوم أن يعلم آداب المعاملة وكرامة النفس للغرب الغليظ القلق؛ وظهر في مصر نظام الزواج بزوجة واحدة للزوج الواحد، وهناك أخذ ذلك النظام يكافح ليثبت أقدامه ويديم بقاءه إزاء المنافسة التي لاقاها من نظام تعدد الزوجات للزوج أو الأزواج للزوجة الذي ظهر في آسيا، وهو نظام ظالم لكنه عامل على تحسين النوع البشري؛ وكذلك كانت مصر أول دولة بعثت صرختها مطالبة بإقامة العدل الاجتماعي؛ كما كانت الدولة اليهودية أول من دعا الناس إلى الإخاء البشري، وأول من صاغ للإنسانية قانون الأخلاق الذي يشعر الإنسان بنسبته لأسرة البشرية جمعاء.
ورابع عناصر المدنية هو الدين- أي الانتفاع بعقائد الإنسان في القوى الخارقة للطبيعة للتخفيف من الآلام والسمو بالشخصية الإنسانية وتقوية الغرائز الاجتماعية والنظام الاجتماعي؛ فقد استمدت أوربا أعز أساطيرها وتقاليدها من سومر وبابل والدولة اليهودية؛ وفي تربة الشرق نبتت قصص الخلْق والطوفان وسقوط الإنسان وخلاصه؛ ومن آلهات أمهات كثيرات جاءتنا في النهاية "أجمل زهرة من زهرات الشعر" وأعني بها مارية أم الله- كما وصفها هيني- ومن فلسطين برزت الوحدانية وانبعثت أرق أغاني الحب والثناء في الأدب، كما خرج منها أقوى وأعزل وأفقر شخصية شهدها التاريخ.