وخامس عناصر المدنية هو العلم- وهو النظر الصافي والتسجيل الصادق والاختبار المحايد وجمع المعرفة شيئاً فشيئاً، بحيث تكون من الصدق الموضوعي بما يمكننا من التنبؤ بمجرى الطبيعة في المستقبل وضبطه؛ فنرى مصر قد طوَّرت الحساب والهندسة وأنشأت التقويم؛ كما نرى الكهنة المصريين قد مارسوا الطب وكشفوا عن الأمراض وقاموا بشتى صنوف العمليات الجراحية وسبقوا أبقراط في إخلاصه لفنه؛ ودرست بابل النجوم ورسمت مواضع البروج وقسمت لنا الشهر أربعة أسابيع وآلة قياس الزمن اثنتي عشرة ساعة والساعة ستين دقيقة والدقيقة ستين ثانية؛ وعلمتنا الهند بواسطة العرب أعدادها البسيطة وكسورها العشرية السحرية كما علَّمت أوربا دقائق التنويم المغناطيسي وفن التطعيم.
وسادس عناصر المدنية هو الفلسفة- وهي محاولة الإنسان أن يفهم شيئاً عن الوجود في مجموعه، ولو أن الإنسان حين يأخذه التواضع حيناً بعد حين يتبين الحقيقة، وهي أن فهم الوجود في مجموعه مستحيل إلا على اللانهاية؛ هي بحث جريء يائس عن العلل الأولى للأشياء ومغزاها النهائي، وعن معنى الحق والجمال والفضيلة والعدالة والإنسان الأمثل والدولة المثلى؛ وهذا كله يظهر في الشرق قبل ظهوره في أوربا بقليل: فنرى المصريين والبابليين يتأملون طبيعة الإنسان وقضائه المرسوم، واليهود يكتبون تعليقات خالدة عن الحياة والموت، بينما كانت أوربا تتخبط في طور الهمجية؛ كذلك نرى الهنود يتناولون المنطق ونظرية المعرفة في نفس الوقت الذي عاش فيه بارمنيدس وزينون الأيلي على أقل تقدير، وكتب الـ "يوبانشاد" تخوض في الميتافيزيقيا، وبوذا يذيع علم نفس يشبه ما جاء في علم النفس الحديث القريب العهد، مع أنه عاش قبل أن يولد سقراط ببضعة قرون؛ وإذا كانت الهند قد أغرقت الفلسفة في الدين، ولم توفق إلى استخلاص التفكير السليم من أوهام الأمل، فإن الصين قد صممت جادة أن تجعل تفكيرها دنيوياً، وأنجبت- قبل أن